عثرات وأخطاء كبرى حالت دون إنتصار الثورة السورية..هل من سبيل لاستدراكها..مالعمل؟

كتب د. باسل معرواي لموقع “سوريتنا”

لم تخرج منطقة الشرق الأوسط ..من أجواء و سياسات الحرب الباردة..والتي إنتهت عملياً بسقوط الإتحاد السوفييتي رسمياً في أواخر عام 1991….وسقط مع نهاية الحرب المبرّر المصلحي واللأخلاقي والذي كان يتذرع به الغرب والولايات المتحدة تحديداً …لم يعد ذا معنى دعم أنظمة شمولية أو ديكتاتوريات عسكرية أو ملكيات وراثية مستبدّة، وذلك بحجّة عدم انضمامها للمحور السوفييتي المنافس أو حتى نشوء اضطرابات فيها تستغلّها حركات يسارية يمكن أن تصل للسلطة …
دعم الغرب التحولات الديمقراطية في أوربة الشرقية وأخذ بيدها لنفض غبار الاستبداد الذي إعتلاها لسنوات عديدة..
كما تَمّ دعم معظم التحولات الديمقراطية التي جرت في أميركا اللاتينية وبعض التجارب في القارتين السمراء والصفراء…
إلاّ أنّ تلك السياسات الأميركية والغربية أيضاً لم تُطبّق في منطقتنا العربية ..حيث لم تَدعم الولايات المتحدة أي مطالب شعبية بالإصلاح أو تضغط على الأنظمة الاستبدادية، وعلى الأقل الموالية لها والتي شاخ معظمها بفعل السنوات الطوال التي جلست فيها على صدر الشعوب…ولكنّ الولايات المتحدة لم تكن لتمانع بل كانت تُشجّع فيما إذا تَمّ إجراء بعض الإصلاحات الشكلية أو إجراء عمليات تجميل هنا أو مكياج هناك
ويعزو كثير من المراقبين أسباب تلك السياسة الأميركية إلى ثلاثة عوامل رئيسية..

1– وجود دولة الإحتلال الإسرائيلي كتجربة ديمقراطية وحيدة ورائدة في المنطقة وتُؤمن بنفس القيم الغربية ..فقد كانت إسرائيل(ولازالت) تُفضّل التعاون مع أنظمة استبدادية سواء من فوق الطاولة كعقد معاهدات سلام (مصر والأردن) أو من تحت الطاولة (حافظ الأسد وإبنه) فقد أثبت الطغاة العرب إحترامهم لتعهداتهم بالحفاظ على أمن ومصالح الدولة العبرية مهما كانت الشعارات المرفوعة …وإستمرت الحالة السورية مثلاً لخمسون عاما مع نظام الأسد..وليست إسرائيل بوارد التعامل مع حكومة عربية منتخبة كل 4 سنوات وتُمثّل نبض الشارع …

2– منطقة الشرق الاوسط منطقة يتلاقى فيها البر والبحر والجو فهي قلب العالم والذي يصل بين أطرافه إضافة لميزة هامة أخرى وهي المخزون(الحالي والإحتياطي) لهذا العالم من الطاقة…ويُفضّل الغرب التعامل مع أنظمة حكم مُستبدّة ومستمرة وراثياً للحفاظ على مصالحه

3– بعد سقوط العدو النوعي الشيوعي للغرب ..كانت المعضلة التي تشغل تفكير المخططين الإستراتيجيين الغربيين من العدو الآن؟ وإذا لم يَتمّ إيجاده فسيتوجب عليهم تصنيعه..لأن من شروط تماسك المجتمعات والدول هو وجود عدو متربص بها…
هيأ القدر عدواً شبحياً للولايات المتحدة (قد تكون إنتظرته لعقد من الزمن) حيث قامت منظمات عالمية جهادية سنية تَربّت وترعرعت في أحضان البنتاغون والcia بالإنقلاب عليها وضربت القلب الأميركي بالحادي عشر من أيلول 2001…فكان العدو الجديد الشرق أوسطي جاهزاً ومبرراً للتعاون الأمني والعسكري مع أجهزة تلك الدول والتي تملك الخبرات الكافية مع هكذا تنظيمات ..بل كان من الضروري الحفاظ على تلك الأنظمة
ولايمكن بالتأكيد تصديق الروايات الأميركية المعلنة أنّ أاحد أهمّ أسباب غزوهم للعراق هو نشر الديمقراطية ومحاربة الإستبداد الصدامي وفتح نوافذ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان على عفن الإستبداد العربي وتعريضه للهواء والشمس الساطعة من الغرب وفقاً لمزاعمهم.
لايمكن فهم الغزو الأميركي للعراق إلاّ في سياق الحرب على الإرهاب بحسب زعمهم والتي دَمّرت الولايات المتحدة دولتان دونما سبب إلاّ إرضاءاً لغرورها وانتقاماً لكبريائها الجريح..ولإعادة فرض سطوتها على العالم عبر حروب منقولة على شاشات التلفزة
ولفهم بعضاً من أسباب ثورات الربيع العربي لابدّ من نفي تأثيرات التحولات الديمقراطية التي حدثت بالعالم بعد إنهيار المعسكر الشرقي…ولابد من نفي تأثير تجربتان حدثتا في أكبر البلدان الاسلامية والتي ترتبط مع الاغلبية العربية المسلمة السنية بروابط الدين…
حدثت ثورة مدنية عظيمة في أندونيسيا على الديكتاتور سوهارتو بعد ثلاثين سنة من حكمه الإستبدادي وكان قبله الجنرال سوكارنو أيضاً…وتَمّ سقوط سوهارتو في أيار 1998 وبنموذج مصري (تَجمّع مئات الآلاف بساحة واحدة بالعاصمة) وكما يسميه البعض نموذج ميدان التحرير القاهري…ولم تنتقل الشرارة إلى العشب العربي الجاف لتندلع نيران الثورات
أيضاً وإعتباراً من ظهور الوجه المدني للحكم في تركيا والتراجع التدريجي للسطوة العسكرية على الدولة ومؤسساتها وبداية هبوب رياح التحولات الديمقراطية على المجتمع التركي ..وترافقت تلك الرياح بنهوض إقتصادي …ومع كل الوشائج التاريخية والدينية والجغرافية إلاّ اُنّ أياً من رياح التغيير التركية لم تصل إلى الجنوب العربي وبقيت حبيسة الأناضول…
كان كل شيئ في سورية مؤجلاً لحين موت الديكتاتور…وقد مات أخيراً في بداية الألفية الجديدة وتفاءل الكثيرون بتغييرات اصلاحية متدرجة بعهد الإبن الوريث ..تلك الشخصية الضعيفة المهزوزة والتي لم تكن إختياراً من أبيه لتوريثه بل جُبِرَ عليها جبراً بعد مصرع شقيقه الأكبر…وخابت الرهانات وإندثرت الآمال بتجنيب سورية إنفجاراً حتمياً مُقبلاً حيث تَمّ قمع ليس الحركات المدنية التي بدأت بالظهور ..بل قُمِعَت أحلام التغيير التدريجي السلمي دون الخوض في برك الدماء والتي لم يكن إستشرافها صعباً.
كانت كُلّ الشروط الموضوعية للثورة مكتملة منذ عقود..الفساد والإستبداد والقمع والتوريث الجمهوري الذي جَسّد حكم العائلة الإقطاعي للمزرعة السورية الأسدية ..بل تم تسمية سورية بإسم سورية الأسد والذي تَمّ التعبير عنه لاحقاً الأسد أو نحرق البلد.
كان ماينتظر لإنفجار برميل البارود السوري هو إكتمال الشروط الذاتية .. وتلك الحالة الجمعية والتي تنفجر بلحظة لا أحد يقررها أو يَتنبأ بها ..وهي لحظة تاريخية لا تتكرر إلا نادراً….
بالتأكيد كان استبداد نظام الأسد متوحشاً أكثر بكثير من أنظمة الدول التي إنضمت لربيع الشعوب العربية ..ولكن ماميّز ذلك الربيع تدحرجه من دولة لأخرى بسرعة البرق …
كانت صرخة البوعزيزي التونسية وآهات خالد سعيد المصرية تلقى صدىً في ليبيا وسورية واليمن والبحرين ….وقد تكون تلك الصرخة التونسية والآهات المصرية هي نضوج العامل الذاتي والذي أدّى لإندفاع الجماهير عفوياً إلى الأزقة والساحات والميادين…وقد يكون أطفال درعا بكتاباتهم الجدارية وردّ الفعل الجسدي العنيف الذي طالهم…والإعتداء السافر على كرامة الرجالات الحورانية السورية والخروج إلى الجامع العمري لإعلان الصرخة الكبرى بوجه الإستبداد بل وتَحدّيه أيضاً ..تلك الأيام أو السويعات قد أنضجت وإكتملت الشروط الذاتية لثورة الحرية والكرامة…وخرج المارد السوري من القمقم

محاولة نظام الأسد تحويل الثورة لحرب أهلية

كان واضحاً إصرار النظام على رفض كل المطالب الشعبية أو حتى الإستعداد لمناقشتها جدياً…وتأكّدت هواجس الجميع بخطاب الأسد في مجلس الشعب بعد 15 يوماً من إنطلاق الثورة في حوران حيث تبدلت الشعارات من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بإسقاط النظام…حتى الجلسات الحوارية الهزلية برئاسة فاروق الشرع التي قام بها إنقلب عليها لاحقا …وفي الحقيقة لم يكن الشعب المُنتفض يرغب بالحوار لأجل الحوار بل بالتفاوض على إصلاحات حقيقية في نظام الحكم تؤدي لاحقاً لتحول تدريجي لنظام ديمقراطي تعددي بدولة مدنية لكل مواطنيها…بينما كانت شروط الأسد للحوار ألقوا أسلحتكم وأوقفوا مظاهراتكم وأعلنوا التوبة …وتلك الشروط الإستسلامية بالطبع رفضها الشعب الثائر….ومن أهم أسباب تَعنّت الأسد وسيره بطريق المواجهة وتحويل الثورة ضده إلى صراع أهلي:

1– خشية النظام من أي إصلاح يتم تقديمه للجمهور وتصميمه على القمع الوحشي للإحتجاجات وإستخدام القوة المفرطة كماً ونوعاً حتى يَتمّ كسر إرادة المتظاهرين، مراهناً بالطبع على أنّ الناس لايمكنها التظاهر سلمياً وتلقي الرصاص بصدور عارية لمدة طويلة.

2- وقوف الجيش والأجهزة الأمنية كتلة واحدة مع النظام وعدم إستعدادهم أو قدرتهم على تمييز أنفسهم عنه..وربط مصيرهم بمصير رأس النظام.

3– رهان النظام الدائم المعلن والممارس على خوف الأقليات الدينية من سيطرة الإسلاميين…وهو ما يعرف بتحالف الأقليات ضد الأكثرية العربية السنية…وهذا التحالف له مُنظّروه ويمكن بدون عناء كبير رؤيته على أرض الواقع
كما أنّ الطابع الطائفي الذي إتخذته خطاب الفصائل الجهادية المسلحة ..وخوف الأقليات وطيف واسع من الأغلبية والتي معروفة باعتدالها تاريخياً ..وبذلك قسم منها وقف على الحياد ولم ينضم للثورة وقسم آخر تماهى مع خطاب النظام بل ومع مواقفه وشارك عسكرياً إلى جانبه

4– إنتقال الصراع الإقليمي مع إيران إلى الساحة السورية..وكان واضحاً أنّ الدعم العربي إعلامياً ومالياً وعسكرياً تَوجّه إلى فصائل بعينها…وكشف مؤخراً حسن نصر الله بلقاء تلفزيوني أنّ الحرس الثوري الإيراني وأذرعه قد أنشأ بالتعاون مع النظام غرفة عمليات مشتركة في دمشق بأواخر عام 2010 غايتها التصدي لأي إرتدادت للثورات العربية على الساحة السورية

من أسباب تَعثّر الثورة السورية

1- لم يُقيّد نظام الأسد نفسه بأية قيود على كمية العنف التي عزم على إستعمالها، فيمكننا إعتبار أنّ الثورة السورية قدّمت الشهداء منذ اليوم الأول لإنطلاقتها في 18 آذار من أمام المسجد العمري بدرعا، حيث تم التصويب على الرأس بالرصاص الحي وسقط الشهيدان جوابرة وعياش.

كان الخيار الأمني أولاً والعسكري لاحقاً هو الخيار الوحيد الذي إختاره النظام لمواجهة موجة الإحتجاجات العارمة التي انطلقت من درعا إلى القامشلي.

2- لم يضع المجتمع الدولي أية قيود على النظام السوري نظراً إلى نوعية وكمية العنف التي استخدمها، ويمكن إعتبار الثورة السورية هي الثورة الوحيدة في التاريخ التي لم تمر بمرحلة الهراوات والرصاص المطاطي والغازات المسيلة للدموع، بل وصل الأمر بالنظام إلى إلقاء البراميل المتفجرة على الأحياء والبلدات المنتفضة، واستخدم الأسلحة الكيميائية مراراً وتكراراً.

وتمّ تجاوز الخطوط الحمراء للرئيس الأميركي أوباما قبل وبعد إعلان خطه الأحمر.

3- تعمد النظام إلى التركيز على إغتيال البعد المدني للثورة، وذلك بالتركيز على إغتيال أو إعتقال أو تهجير الناشطين المدنيين وكلّ أشكال الثورة المدنية التي ولدت مع الإحتجاجات، فكان الإعلامي والناشط المدني والمسعف هم الأعداء الأخطر عليه.

4- سعى النظام مبكراً إلى عسكرة الثورة أولاً ثم محاولة تطييفها، ونجح بذلك إلى حد كبير، حيث أطلق السجناء من سجن صيدنايا واحتفظ بالناشطين المدنيين في مسرحيات مراسيم العفو المتتالية، وكان النظام على قناعة أن من أفرج عنهم من أصحاب الايديولوجيا الجهادية سيتمكنون خلال شهر أو أكثر من تشكيل فصائل جهادية مسلحة.

5- إقدام بعض داعمي الثورة السورية على تركيز الدعم على الفصائل الجهادية، ما أدى لتغولها على قوى الثورة العسكرية التي تمت تسميتها فصائل الجيش الحر.

وبالتالي إزاء حالة طغيان الرايات السوداء والخطاب الديني الطائفي، تراجعت الدول التي سميت بأصدقاء الشعب السوري (التي وصل عددها لأكثر من 100 دولة في مؤتمر مراكش)، وراجعت مواقفها المؤيدة للثورة السورية، إلى أن أصبحت لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة على مبدأ الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي ستتعرف عليه.

6- لم تتمكّن فصائل الجيش الحر من تشكيل قيادة عسكرية موحدة بالإضافة إلى عدم وجود قيادة سياسية تُمثّلها وتأتمر بأوامرها وتًنفّذ توجيهاتها.

7- التدخل العسكري الخارجي الحقيقي أتى لمصلحة النظام وليس لمصلحة الثورة، كما كانت تروج الآلة الإعلامية للنظام بأنها تتصدى لمؤامرة كونية.

فقد ألقى نظام الملالي في إيران بكل ثقله في المعركة إلى جانب قوات النظام عبر ميليشيات متعددة الجنسيات مسلحة وممولة ومنظمة بشكل جيد، ومع ذلك عندما كانت دمشق على وشك السقوط في منتصف عام 2015، بأيدي الثوار السوريين، تدخلت إلى جانب قوات النظام والميليشيات الحليفة له، قوات دولة عظمى (روسيا) في 30 أيلول 2015، مع الفيتو الذي وضعته أميركا تحديداً على تزويد فصائل الجيش الحر بأي أسلحة نوعية منذ البداية، إضافة لسيطرتها الكاملة على مجريات العمل العسكري وذلك من خلال التحكم بغرفتي الموم والموك.

8- أدّى الخطاب الديني والطائفي الذي مارسته داعش والنصرة وأخواتهما ليس إلى نفور المجتمع الدولي من تأييد الثورة السورية بل إلى خوف الأقليات والأغلبية المعتدلة من الأغلبية السنية إلى أخذ موقف من الثورة، وأدى إلى ما عرف لاحقاً بتحالف الأقليات (وفي أحسن الأحوال وقوفها على الحياد).

ما العمل؟

1- على مستوى الثورة السورية ينبغي التمسّك بثوابت الثورة وهي إسقاط نظام الأسد بكافة رموزه وأشكاله وتفكيك أجهزته الأمنية وترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب ..وخروج كافة القوى الاجنبية من الأراضي السورية والحفاظ على وحدة سورية وبناء هوية وطنية جامعة ..مع رفض أي محاصصة مهما كان نوعها،
والعمل على تعزيز البعد المدني للثورة وتعزيز المؤسسات المدنية الناجحة أو التي يوجد أمل بإصلاحها وحلّ ماثبت فشله منها..والتمسّك بالمطلب الجماهيري المتوافق عليه لن نصالح ونرفض أي تطبيع مع سلطة الأسد المجرمة..والتمسك بالقرارات الدولية ومطالبة المجتمع الدولي بما ألزم به نفسه…

2– أما على المستوى الوطني..ونظراً للشروخ والأخاديد العميقة التي أحدثها النظام المجرم في النسيج الإجتماعي السوري فإنه يجب العمل ضمن خطط وطنية للتعافي من تلك الشروخ العمودية منها والأفقية…وذلك بإيقاف حملات الكراهية أو الشماتة أو الخ ….. بين مختلف المواطنين السوريين وحضّ سلطات الأمر الواقع على فتح المعابر الداخلية للعمل على توحيد السوق الإقتصادية وتبادل المنافع (وهذه من أهمّ وحدة الدول والمجتمعات حيث تكون مصالح ومنافع متبادلة بين المواطنين تلغي أي فكرة تقسيم أو تقوقع يعمل عليها الغير) وتبادل الزيارات للأهالي المحتجزين خلف خطوط وقف القتال والعمل على بناء كتلة حرجة من الوجهاء في مختلف المناطق السورية تكون نواة على الأرض لبناء سورية الواحدة لجميع ابنائها

شاهد أيضاً

ما مصلحة السعودية من التطبيع مع إسرائيل؟

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *