هل من عودة لحدود “سوتشي” 2018 ؟

كتب د. باسل معرواي

لاشكّ ان التعافي الروسي من تداعيات الإنهيار السوفييتي والذي بدأ عملياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد بلغ مرحلة من النضج بعد عقد من الزمن …حيث تمكّن القيصر الجديد من تحقيق إستقرار داخلي أمني وسياسي وبنى سلطة مركزية إستبدادية….
أتاح توفّر تلك العوامل من التطلّع لإستعادة الأمجاد الروسية الغابرة والرغبة ببناء القوة العظمى المنافسة للقطبية الأحادية الأميركية ..فكان غزوه لجورجيا 2008، ثم بعض أجزاء أوكرانيا ومنها جزيرة القرم 2014، لإبعاد حلف الناتو عن محيطه الحيوي وتأمين ميناء بحري يربطه بالعالم دون إنتظار لذوبان الجليد في القطب الشمالي …وكانت خططه لجعل أوروبا ( وخاصة ألمانية ) تُدمن على النفط والغاز الروسيين…..كان لا من أجل أن يتحوّل لقطب إستراتيجي عالمي من التوسع خارج محيطه الحيوي، وكان أن إنتظر إهتراء الحالة السورية وحاجة الولايات المتحدة لضابط إيقاع لهذا الصراع يمنع الخروج عن قواعد السيطرة، فكان لها أن رحبت ضمنياً بالتدخل الروسي في سورية منعاً لانتصار القوى المناهضة للأسد وضبطاً لأي توسّع إيراني غير مرغوب به أكثر من اللازم بل تحجيمه لمستويات دنيا…
بالطبع لم يكن الروس يكفيهم أن يلعبوا دور الشرطي في البؤرة السورية الملتهبة أو دور الإطفائي للسيطرة على منع تمدّد النيران للجوار..لم تكن روسيا تلك الدولة التي تتلقى الأوامر من الولابات المتحدة بالتدخل بل لم تكن بوارد معاندتها أيضاّ… بل كان لها أجندتها الخاصة ضمن إستراتيجية إختطتها لنفسها على المستوى العالمي، إذ كانت سورية حلقة جيوسياسية كنقطة بداية لتنفيذ ما ترنو إليه روسيا.
يرى بعضهم أنّ إعادة الحرارة للعلاقات الروسية التركية ورفع مستوى التعاون والتنسيق بينهما بعد إرث تاريخي دامي …كانت من الأهداف الكبرى للتدخّل الروسي في سورية ..فقد كان واضحاً الحنق التركي من السياسة الأميركية في سورية وأهمها عدم تحقيق الرئيس باراك أوباما للمنطقة الآمنة أو منطقة الحظر الجوي التي طالبت بها تركيا في الشمال السوري..بل مما زاد الطين بِلّة هو وضوح السياسة الأميركية في سورية من ناحية الإعتماد على عدو تركيا اللدود وهو حزب الإتحاد الديمقراطي(الكردي) وأذرعه العسكرية التي تراها أنقرة فرعاً سورياً لحزب العمال التركي المحظور و المصنّف على لوائح الإرهاب التركية والأميركية ايضاً ..وما سينتج عن التعاون الأميركي مع ذلك الحزب من الامساك بالأرض بعد طرد داعش منها وتبلور إقليم كردي إنفصالي في مناطق واسعة من سورية ملاصقة للحدود التركية
إستثمر الروس جيدا ذلك الشرخ الأميركي التركي في سورية والذي انسحب على مُجمل العلاقات التركية الأميركية …وكان التعاون بين أنقرة وموسكو هو البديل الموضوعي للسياسة التركية في سورية (وانسحب ذلك أيضاً على مجمل العلاقات بين البلدين) كردّ أو تقليل أخطار التوجه الأميركي الذي باتت معالمه واضحة..وكان الروس ينوون في صراعهم البارد مع الغرب إحداث صدع جيوسياسي في حلف الناتو يُسهم ببداية تصدعه أو خلخلة بنيانه بسحب تركيا رويداً رويداً منه…

بلغ التعاون الروسي التركي ذروة مداه بِغضّ النظر عن عمليات عسكرية تركية جرت بعد التدخل العسكري الروسي لقطع الممر الكردي الذي كان يسير برعاية دولية غربية..
وبالمقابل وكما فعلت الولايات المتحدة شرق الفرات إذ اسقطت كل ثقلها على تلك البقعة من الجغرافيا بوجود حليف محلي على الأرض وبضع مئات من الجنود والمستشارين الأميركان ولم يجرؤ أحد على تحدي ذلك الجيب الجيو إستراتيجي للولايات المتحدة
استغلت روسيا عربدتها وقوتها العسكرية المنفلتة من أيّ عقال وأسقطت حمايتها على الجغرافيا الواقعة تحت سيطرة حليفها الأسد بعد أن تم توسعتها ودحر خصومه…
ولأنّ سورية ساحة أو بؤرة لصراع إقليمي ودولي تنخرط فيه معظم القوى صاحبة المصالح والمشاريع المتناقضة والمتصادمة أحياناً كثيرة…تمكنت روسيا من أنْ تكون وسيط القوة الأول في سورية وبذلك حققت مكانة دولية هامة …
كانت روسيا على علاقة جيدة مع كل أطراف الصراع الخارجيين…علاقة وتنسيق جيد مع الولايات المتحدة…وعلاقات جيدة مع إسرائيل ..وعلاقات إستراتيجية مع إيران…وعلاقات نامية ذات بٌعد إستراتيجي مع تركيا …وعلاقات تنمو وتتوطّد أكثر مع الكتلة العربية في مصر والخليج بسبب ضبابية الإستراتيجية الأميركية في المنطقة أيضاً …وكان الروس بفترة من الفترات( وحتى قبل غزوهم لأوكرانيا) قادرين على إدارة الصراع وضبطه عند حدود معينة وتثبيت قواعد الإشتباك والسهر على رعايته ..وبالتالي كان وضع روسيا في سورية صورة مُصغّرة عن رغبتها بتوسبعها ونقلها من مستوى الإقليم الى العالم…
ومن المعروف أنّ جوهر العلاقة الروسية التركية في سورية ورافعته هو القوة الروسية والتي أنتجت تفاهمات سوتشي وأستانة …وأنّ خطوط القتال بين قوات نظام الأسد وقوات الثورة مبنية على تلك التفاهمات….وبانهيار تلك التفاهمات بسبب انهيار جوهرها وقوتها الرافعة، فإنه ليس من المستبعد أن تتحرك خطوط وقف القتال أو الخنادق الحالية لِتعبّر عن الحقائق الحالية، وهو بداية انهيار القوة الروسية الذي بدأ مع غزوها لأوكرانيا في بدايات العام الماضي وأخذ يرمي بظلاله على المشهد السوري رويداً رويداً إلى أن أصبح أو سيصبح قريباً ذكرى أو أثراً لقوة روسية كانت في سورية أنتجت معظم المشهد السوري ومنه فصل أستانة وسوتشي
وليس من وريث شرعي لملء الفراغ الجيوسياسي في الساحة السورية الذي سَيخلّفه التراجع الذي سيسبق الإنسحاب الروسي غير القوة التركية خاصةّ بقيادتها القديمة بعهدها الجديد الجديد حيث تملك معظم المتطلبات لذلك …بالطبع لاتستطيع إيران فعل ذلك لأسباب معروفة…ولاترغب الولايات المتحدة بذلك ولكنها في الوقت نفسه تدعم الخيار التركي أو لاتمانعه على الأقلّ..
فلتركيا مناطق سيطرة واسعة في الشمال السوري وقوات حليفة لها مع التحكم بقرابة 10 مليون سوري يعيشون إما في داخلها أو في مناطق تحت سيطرتها في داخل سورية…إضافة لكونها تملك دونما الجميع القدر الجغرافي مع سورية، وبما أنّ التاريخ يتبدّل والحغرافيا ثابتة فإنّ دوراً مهماً ينتظرها في سورية.

تملك تركيا علاقات جيدة مع إسرائيل وكذا مع إيران في نفس الوقت…..ومع المجموعة العربية المهتمة بالشأن السوري (والتي لايمكن لها أن تكون وسيطا للقوة أو قطب إستراتيجي إقليمي في الوقت الحالي) يضاف إلى ذلك علاقات مع الولايات المتحدة يحكمها التنسيق العسكري والأمني لضرورة الحلفاء بـ”الناتو” ومع ذلك يطفو على سطحها خلافات سياسية وتصريحات غير ودية، لكنها ثابتة في المجالات الأمنية والعسكرية والإستراتيجية عموماً …ومُتوقع لها التحسن مستقبلاً إذ تلقى الرئيس التركي التهاني بإعادة إنتخابه من معظم القادة الغربيين
لم يبقَ لتركيا لتكون وسيطاً للقوة إلا فتح أو تطبيع علاقة ولو باردة مع نظام الأسد لكي تكون باستطاعتها التحدث مع مختلف الفرقاء…وهي سعت إليه في المرحلة السابقة لأهداف إنتخابية صرفة انقضى وقتها الان ولأهداف إستراتيجية لوراثة القوة الروسية والتي كانت تنهار على مرأى من الجميع وسيستمر انهيارها إلى التلاشي إعتماد روسيا على تركيا في عدم التعرض لمصالحها في سورية …
وتبقى “قسد” بالنسبة لتركيا كقوات الثورة السورية بالنسبة لروسيا…ممكن فتح مسارات مع “قسد” برعاية أميركية، كما فتح الروس مسارات مع المعارضة السورية برعاية تركية
ويمكننا قراءة رفض الأسد وإيران للدور التركي الجديد عبر عرقلة المسار الرباعي والهرب للمسار العربي الذي لايُشكّل أي خطورة عملية على النفوذ الإيراني على الأرض أو استمرار نظام الأسد بالحكم إنما يمكن جني فوائد معنوية وبعض المكاسب المادية
ويمكن لتركيا جني ثمار جَمّة من دورها الجديد في سورية كوسيط للقوة ..دور إقليمي متصاعد يُحقّق أبعاداً جيو اقتصادية (بمعنى منزوع دسم الأيدلوجيا) يكون من ضمنه أن تصبح تركيا مركزاً لتوزيع الطاقة عالمياً عبر إنتهاء الانابيب المختلفة إلى مَصبّ ميناء جيهان التركي (بعد خروج الطاقة الروسية من الحسابات الغربية المستقبلية) …
و من المتوقع أنه سيكون محور السياسة التركية الجديدة إتجاه النظام السوري مُحدّدة بثلاث مطالب …وتهديد إذا لم يقوم بتنفيذها:

1– التعاون من جانب نظام الأسد في مكافحة الإرهاب وفق المفهوم التركي

2– التعاون بقضايا اللاجئين

3– التعاون بالدخول بالعملية السياسية…
واذا لم يلتزم نظام الأسد بذلك فمن المحتمل أن تقوم تركيا بشن عملية عسكرية تصل للحدود المتفاهم عليها سابقاً مع روسيا في تفاهمات سوتشي 2018، والتي وافق عليها نظام الأسد وتكون حدودها النقاط التركية الـ12 التي تَمّ الإنقلاب عليها من القوة الروسية الطاغية وقتها ..تلك المساحات الكبيرة والخالية من سكانها الآن ممكن أن تؤدي (وبدعم عربي ودولي) لإعادة للاجئين السوريين للأراضي التي أجبروا على الخروج منها ووفق المعايير الدولية لعودة اللاجئين ..وعدم الركون للحلول الترقيعية والإسعافية القائمة على بناء مجمعات سكنية في الشمال السوري ..لاتُحقّق لا المعايير الإنسانية للمواطن السوري ولا تتوافق مع المعايير الدولية..

نقلاً عن “أمل سورية” بتصرف

شاهد أيضاً

ما مصلحة السعودية من التطبيع مع إسرائيل؟

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *