في 16 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011 علقت جامعة الدول العربية بموافقة 18 دولة عضو عضوية سورية داخل الكيان، على خلفية القمع الذي مارسه نظام بشار الأسد بحق الشعب السوري الذي انتفض رفضًا لانتهاكات النظام وفساده وتغوله على حقوقه سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
وبعد أقل من أربعة أشهر، أعلنت دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين والكويت وعمان والسعودية والإمارات)، في فبراير/شباط عام 2012، سحب سفرائها من دمشق، دعمًا لقرار الجامعة العربية، وإيمانًا واعترافًا بدوافعه ومسبباته، فيما شغلت المعارضة السورية مقعد بلادها داخل الجامعة في قمة الدوحة التي عقدت في العالم التالي.
وفي 7 مايو/أيار 2023 ها هي الجامعة ذاتها تتفق خلال الاجتماع التشاوي لوزراء الخارجية العرب الذي عقد بالقاهرة يوم الأحد 7 / 5 / 2023، على عودة سورية وإلغاء القرار السابق والسماح لنظام الأسد باستئناف مشاركة وفوده في اجتماعات الجامعة، وذلك وفق البيان الصادر بأنه “تقرر استئناف مشاركة وفود حكومة الجمهورية العربية السورية في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية، وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها اعتبارًا من 7 مايو/أيار 2023”.
أكثر من 12 عامًا ونصف العام، بين قرار التعليق (16/11/2011) وقرار العودة (7/5/2023)، قرابة 150 شهرًا كانوا الفيصل بين موقفين متناقضين للدول العربية – إلا القليل – إزاء النظام السوري، الأمر الذي يدعو للتساؤل: ما الذي تغير في المشهد حتى تغير الأنظمة العربية موقفها من أقصى يمين العزلة إلى أقصى يسار الاحتواء والتعويم؟ هل زالت أسباب ومسببات الموقف الأول وعليها تم تغييره؟ هل نجح العرب في تحقيق أهداف العزلة طيلة السنوات الماضية؟ وما ثمن التراجع عن الموقف السابق؟.
كما ارتفع عدد النازحين السوريين من بضعة آلاف في 2011 إلى نحو 2.1 مليون مواطن، بما يمثل أكثر من 50% من سكان مناطق المعارضة السورية البالغ عددهم 4 ملايين نسمة، أما سكان المخيمات فتجاوز عددهم مليونًا و43 ألفًا و869 نازحًا، يعيشون ضمن 1293 مخيمًا، من بينها 282 مخيمًا عشوائيًا أقيموا في أراض زراعية، ولا تحصل على أي دعم أو مساعدة إنسانية أممية، بحسب إحصاء لفريق “منسقي استجابة سوريا”، الصادر في شهر يناير/كانون الثاني 2021.
الإحصاء كشف عن بلوغ عدد الأيتام (ممن فقدوا آباءهم على أيدي جيش النظام) في سكان مناطق المعارضة نحو 197 ألفًا و865 يتيمًا من النازحين والسكان، أما عدد الأرامل السوريات اللاتي لا معيل لهن فبلغ نحو 46 ألفًا و302 أرملة، فيما شُرد أكثر من نصف سكان سوريا داخل البلاد وخارجها، وتحولت الدولة السورية إلى ساحة كبيرة لتصفية حسابات بين قوى إقليمية ودولية.
الجرائم الإنسانية التي ارتكبها نظام الأسد بحق شعبه تتجاوز أبشع جرائم الحرب التاريخية، وهناك الكثير من الأدلة عليها، حسبما كشف رئيس اللجنة المستقلة من أجل العدالة الدولية والمحاسبة (معنية ببحث جرائم الحرب في سوريا وتضم محققين ومحللين ومحامين) ستيفن راب (عمل في السابق سفيرًا لأمريكا لقضايا جرائم الحرب)، الذي قال في تصريحات حصرية لشبكة CBS News الأمريكية في فبراير/شباط 2021: “الأدلة التي بحوزة اللجنة عن مسؤولية نظام الرئيس السوري بشار الأسد عن جرائم الحرب أكثر مما توافر للمدّعين في محاكمة قادة النازية أو محاكمة الزعيم اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش”، لافتًا إلى أن “النازيين لم يلتقطوا صورًا فردية لكل من ضحاياهم مع معلومات تعريفية عنهم كما فعل مجرمو الأسد”.
وأضاف الدبلوماسي الأمريكي المعني بجرائم الحرب أن الأدلة التي جمعها ضد نظام الأسد “أقوى مما استخدمته دول الحلفاء عقب الحرب العالمية الثانية لإدانة قادة النازية في محاكمة نورنبيرغ التي امتدت بين نوفمبر/تشرين الثاني 1945 وأكتوبر/تشرين الأول 1946، وشملت كثيرًا من قادة الحزب النازي الألماني”.
منوهًا إلى تهريب أكثر من 900 ألف وثيقة حكومية سورية تثبت تورط الأسد بنفسه في تلك الجرائم، إذ كان اسمه موجودًا في كل تقارير الجرائم المرتكبة، “مما يدل على أن هذا الأخير كان ينظم هذه الإستراتيجية، ويشرف بشكل مباشر على تنظيم سياسات القمع والتحقيق والتعذيب، بدليل وجود اسمه في عدد من الوثائق والتقارير الموثقة”، على حد قوله، واصفًا هذه الانتهاكات بأنها “جهد منظم”.
إذًا.. ما الذي حدث؟
لم تكن الانتهاكات الوحشية التي ارتكبها نظام الأسد ضد شعبه هي محور الخلاف الوحيد بين الحكومات العربية والنظام السوري، ولم تكن كذلك هي السبب الأوحد لاتخاذ قرار العزلة، فهناك أسباب أخرى على رأسها النفوذ الإيراني في الداخل السوري، إذ كانت العواصم العربية لا سيما الخليجية تتشدق قديمًا بتدخل طهران في الأزمة ودعم الأسد بالعتاد العسكري، فيما دندن البعض على نغمة أن تقليل زخم التشابك بين طهران ودمشق شرط أساسي للتطبيع مع الأسد.
وعلى عكس تلك الشعارات، فاليوم الوضع صار أكثر نفوذًا، فلم تعد طهران داعمًا للأسد فقط، بل أصبحت شريكًا أساسيًا في إدارة سوريا، سياسيًا واقتصاديًا، وخلال السنوات القليلة الماضية بدأت جني حصاد الدعم الذي قدمته خلال الأعوام الأولى للثورة، حيث تغلغل الحرس الثوري وشركاته في الاقتصاد السوري ومُنح عشرات العقود في ملف إعادة الإعمار وبسط هيمنته على مجال الطاقة والثروة المعدنية، هذا بخلاف المكاسب اللوجستية من بناء قاعدة إيرانية فوق التراب السوري، واتخاذ دمشق عاصمة ارتكاز جديدة لتوسيع النفوذ الإيراني إقليميًا.
لم يلتزم نظام الأسد بأي شرط مسبق ولم يبادر بإزالة أي من الأسباب السابقة التي على أساسها فرضت عليه العزلة العربية والدولية، بل على العكس من ذلك، بادرت بعض العواصم بتذليل العقبات أمام التقارب معه بحجة الأمن القومي العربي والمستجدات الراهنة، وبدلًا من تعزيز العزلة وعقابه على الجرائم التي ارتكبها وما زال بحق السوريين، كانت النتيحة تعويمه وإعادته للمشهد بصورة تناقض تمامًا شعارات الإنسانية والمبادي التي تشدقت بها الدول العربية في 2011، وبدلًا من قبوع الأسد داخل السجن، عقابًا على جرائمه طيلة السنوات الماضية، ها هو اليوم ربما يكون على رأس وفد بلاده في قمة الرياض المزمعة بعد أيام، بل ربما من يلقي كلمة الافتتاح.
وبعيدًا عن الاتصالات القائمة بين دمشق وبعض العواصم كالقاهرة والجزائر وبغداد، بدأت مرحلة التعويم الفعلية لنظام الأسد بنهاية عام 2018 حين أعلنت الإمارات فتح سفارتها في دمشق، لتحذو البحرين حذوها، ثم يليها زيارة الأسد لأبو ظبي في مارس/آذار 2022 وهي الأولى له عربيًا منذ فرض العزلة، وخلال تلك الزيارة أعلن محمد بن زايد بشكل واضح أنه قد حان الوقت لعودة دمشق الأسد للحاضنة العربية.
كما زار رأس النظام سلطنة عمان في فبراير/شباط 2023، وفي 12 أبريل/نيسان 2023 اتخذت تونس مسار الدولتين الخليجيتين، معلنة استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا، وفي نفس اليوم أجرى وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، زيارة هي الأولى له منذ الحرب للسعودية، رد عليها نظيره السعودي فيصل بن فرحان بزيارة مماثلة لدمشق بعدها بأقل من أسبوع في تطور عكس رغبة المملكة ومعها حلفائها في المنطقة في عودة النظام السوري للحاضنة العربية مرة أخرى.
قادت الرياض حملة تعويم نظام الأسد إقليميًا وعربيًا، وفق أبجديات جديدة في توجهاتها السياسية التي تستهدف من خلالها تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، ولو كان ذلك على حساب مرتكزاتها الوطنية الثابتة التي طالما تشدقت بها بين الحين والآخر، تبعتها في ذلك الأنظمة التابعة لها اقتصاديًا التي تخشى التغريد خارج سربها.
مكافأة النظام على جرائمه
المعارضة السورية تعتبر تعويم نظام الأسد واحتواءه عربيًا مكافأة على الجرائم التي ارتكبها وتشجيع لبقية الأنظمة الديكتاتورية على أن تحذو حذوه، حيث الرصاص هو الرد الأنجح على المعارضة، والتنكيل هو السبيل الوحيد لمواجهة دعوات التغيير والديمقراطية، كما أشار المحلل السياسي السوري المعارض، سامر خليوي، كاشفًا أن إعادة سوريا للجامعة العربية “لن يغير من الأمر شيء”، وتابع في حديثه لـ”الحرة” أن “المشكلة لا تزال قائمة لأن الأسد هو أساس المشكلة وليس جزءًا من الحل.. كل دولة (تطبع مع الأسد) لها مصلحة مع هذا النظام وهناك أنظمة ديكتاتورية عدوة للربيع العربي”.
الرأي ذاته ذهب إليه المعارض السياسي السوري، سمير نشار، الذي أرجع ما حدث بأنه صفقة عقدتها السعودية مع إيران تسمح لها بالخروج من حرب اليمن على حساب الملف السوري، مضيفًا أن “المسارات السياسية في البلاد لم تنجز ولم يقدم النظام أدنى تنازل يتعلق بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الذين يزيد عددهم على 100 ألف معتقل”.
منوهًا أن “السعودية والدول المطبعة قفزت على القرار الأممي 2254 بعد الانعطافة الحادة في موقفها.. السوريون لا يشعرون بالأمان بوجود هذا النظام الذي يحاول الإفلات من العقاب والمساءلة”.
المصدر : موقع “نون بوست”