الرئيس الإيراني من قلب عاصمة الأمويين: انتصر المذهب

كتب د. باسل معرواي في “نينار برس”

بعد انتصار ثورة الخميني عام 1979، كم رغبنا أن يكون بيننا وبين القوم جبل من نار، لانعبر إليهم ولا يصلون إلينا، ولا نسمع أخبارهم ولا تصلهم اخبارنا كما قال جدنا عمر بن الخطاب.

كان العراق سداً في وجه الأطماع والطموحات الفارسية، وساهم بإجهاض الخطر الفوضوي الإيراني المُبكّر، بل وأضعف القدرة الإيرانية على التمدّد غرباً لعشرين سنة، ولم يُقصّر العرب (باستثناء الأسد الأب) بدعم العراق مادياً ومعنوياً طيلة السنوات الثمانية التي استغرقتها الحرب.

كان الخلاف السني الشيعي قبل الخميني بجوهره خلافاً فقهياً ويرقى في بعض جوانبه ليكون خلافاً عقدياً بفروع ضيّقة لكنها جوهرية.

ولم يُصبح صراعاً سياسياً إلاّ بعد وصول الخميني للحكم ووضعه لدستوراً مذهبياً (جعفرياً) جَسّد مذهبية الدين ومذهب الدولة، وألغى ما اتفق عليه الفقهاء الشيعة عبر القرون من تأجيل صلاة الجمعة وإنشاء الجماعة السياسية المذهبية إلى ما بعد ظهور الإمام الغائب.

تم اعتماد مشروع ولاية الفقيه (وهي مصدر خلاف داخل الطائفة الشيعية ولا يوجد اتفاق عليها) وأصبح من ينوب عن الإمام المهدي الغائب هو رأس السلطة ومصدر السلطات المقدّسة في الجمهورية الإسلامية.

استفاد الإيرانيون كثيراً من أخطاء الرئيس الراحل صدام حسين بغزو الكويت بتصدّع السدّ العربي بوجه أطماعهم، وخدمت الأقدار إيران بِتهوّر جماعات القاعدية الجهادية بِعضّ اليد الأميركية التي ساعدتهم بهزيمة الإمبراطورية السوفييتية بأفغانستان وظنّوا أنفسهم من هزم القوة العظمى الثانية بالعالم فلماذا لا يضربون القوة العظمى الأولى في عقر دارها، وحصلت ضربات أيلول 2001، وتمّ تظهير عدوّ للغرب أجهدوا أنفسهم لعقد من الزمان للبحث عنه (أو صناعته إن تعذّر ذلك) بعد انهيار العدو الشيوعي.

وأصبح العدو الاستراتيجي الأول للغرب والولايات المتحدة على وجه التحديد هو المنظمات الجهادية السنية، وبالطبع ستكون الحواضن الاجتماعية وحتى الدول نفسها مستهدفة.

وبرزت في الإستراتيجية الأميركية الاعتماد على احتواء خطر الجماعات السنية بخلق عدو نوعي لها في منطقتها هو الأذرع الجهادية الشيعية، فكان لابد من إضعاف السنّة وتقوية الشيعة،

قام المحافظون الجدد بتدمير واحتلال أهم دولتين تحاصران المد الشيعي الإيراني من الاندفاع شرقاً وغرباً، فسقط العراق وأفغانستان ضحية لضربات 2001، وصار الطريق ممهداً لإيران حيث دخل عملاءها العراقيون بعمائمهم السوداء وحقدهم التاريخي الدفين على الدبابات الأميركية إلى عاصمة العباسيين بعد أن أعيت الحيلة الإدارة الأميركية عن التذرّع بأي سبب لتغطية أهدافها الحقيقية، ولم يجدوا في العراق أسلحة دمار شامل لإزالتها بل كان الهدف إزالة السنة العرب من الخريطة الجغرافية والديمغرافية وبدأت سياسات اجتثاث البعث (ولازالت) وتدمير الدولة العراقية وإنشاء دولة الميليشيات الموجودة الآن كأفضل تعبير عن التخادم الأمريكي الإيراني، ولا تستطيع دولة الميليشيات العراقية من الوقوف إلا بساقين الأولى أميركية والأخرى إيرانية.

تخادم حافظ الأسد (المقبور) مع نظام الملالي باكراً وأرسى أسس علاقة إستراتيجية ويرى البعض أنّ ذلك التعاون أرسى الإطار المستقبلي لتحالف الأقليات (والذي لازال قائماً بدخول أطراف مسيحية لبنانية وحوثية زيدية) والذي أصبح الآن يُعبّر عنه بتحالف المقاومة ضِدّ دولة الاحتلال الإسرائيلي وتمكّن الإيرانيون من اختراق الجماعات السياسية السنية لتشكيل ذلك التحالف وإبعاد العنوان الطائفي عنه ويرى البعض أنّ تسميته بمحور التشيع السياسي هو الأدق تعبيراً.

مشهور عن القادة الإيرانيون الحاليون الصبر الاستراتيجي وتوظيف موقعهم الجغرافي ومشروعهم الإستراتيجي ضمن المشروع الأميركي للمنطقة بحيث يتوافق معه بالأهداف العامة ويتخالف بجزئيات وتفاصيل معينة، وهذا التوظيف أو التخادم المصلحي بين إيران والولايات المتحدة ليس تخادماً استراتيجياً بل آنياً ومصلحياً إذ أنّ القاعدة في العلاقات الدولية هي تَبدّل المصالح وليس توافقها دائماً، ومنذ قُتِلَ قاسم سليماني في بغداد بدأ تناقض المصالح بين الطرفين ووصل بالعام الأخير إلى إجهاض فرص التوقيع على اتفاق نووي جديد (أو بثّ الروح في الاتفاق القديم وترقيعه) وإنحيار إيران الواضح للتحالف العسكري مع روسيا في حربها بالوكالة مع الناتو.

استثمرت إيران كثيراً في جوارها الإقليمي وسيطرت على القرار السياسي لأربع عواصم عربية مع غزة، ووصلت جحافلها لضفاف المتوسط وباب المندب، ولن تتخلى عن ذلك بسهولة وهو ليس قرار سياسي بغية تحقيق مكاسب ما، بل إنّ هذا التمدّد هو جوهر المشروع الإيراني ولن يبقى لنظام ولاية الفقيه أي مشروعية في قم وطهران إن فكّر (مجرد تفكير) بالتخلي عن مشروع تصدير الثورة للخارج.

كانت سورية خطاً أحمر إيرانياً فقد وقفت بكل قوتها وامكانياتها ضد الثورة السورية التي هددت مصالحها، ولم تستأذن أحداً بإرسال الجند والعتاد(بل يقال تم ذلك بتنسيق وموافقة وضوء أخضر إسرائيلي أميركي لحماية نظام الأسد من السقوط المفاجئ-موقع سوريتنا)، ولم تنظر جني فوائد اقتصادية من تدخّلها وحماية الأسد، فالدول العقائدية والتي تملك مشاريع عالمية أو إقليمية لا تقيس تدخلها بحجم الخسارة أو كمية الربح الاقتصادي وهل هذا التدخل مجد أم لا؟.

إيران دولة غنية بثرواتها الباطنية وتُسخّر كل تلك الموارد لخدمة أيديولوجيتها الدينية الإمبراطورية العابرة للحدود، ونرى حجم البؤس والعوز والفاقة التي يعاني منها الشعب الايراني ولا يكترث لها صنّاع القرار وسدنة المشروع وكهنة النظام.

رئيسي في دمشق

لم يكن يخفى على الإيرانيين أنّ المحاولات الروسية – التركية من إصلاح ذات البين مع نظام الأسد ستنال بالضرورة من حصتهم في سورية وبأدوات ناعمة تركية ترضى عنها موسكو وتلك الأدوات هي ما يحتاجها نظام الأسد بالفعل بعد أن طُويَ ملفّ الحرب جانباً (إلى حين)، وتُدرك إيران أنّ المراهقة السياسية العربية بعد غياب طويل عن الساحة السورية ترمي أيضا للتقليل من حصتهم السورية والتي جهدوا كثيراً للاستحواذ عليها، وتدرك إيران أنها القوة الوحيدة التي يتّفق أو يُجمع الجميع على كرهها والتوجّس منها، وتدرك أن حزاماً إيرانياً أفقياً من المتوسط لطهران مروراً بعاصمتي الأمويين والعباسيين وأمجاد السلاجقة التركمان، قد يكون السنة العرب والترك في سبيل اختراقه بخطوط عامودية تصل تركيا بالخليج العربي وهو أمراً قد يكون مخططا إستراتيجيا يجري العمل عليه.

وتعلم إيران أنّ الجعجعة والقعقعة الإسرائيلية لا تؤدي إلى طحن المشروع الإيراني، وأنّ الكيان العبري المختبئ خلف الجدران في الضفة الغربية وغزة، قد يكون مضطراً يوماً ما إلى بناء جداري تفاوضي يجعل من الكيان الاسرائيلي غيتو أو حارة يهود في محيطها العربي المسلم (سنياً كان أم شيعياً).

وتدرك إيران أيضاً أنّ لا سياسة أميركية واضحة في المنطقة، وضعف الإستراتيجيات الأميركية حول العالم لا يعود لضعف في أدوات القوة والسيطرة بل بغياب نخبة تحدد الأهداف الكبرى وتسعى للوصول إليها، وهاهم الحلفاء القدماء في الخليج العربي وتركيا وغيرها من مناطق العالم بدؤوا يفكرون بالنزول من القطار الأمريكي وصعود عربات القطارات الشرقية صينيةً كانت أم روسية أو حتى هندية.

لم تدخل إيران إلى سورية لتخرج منها كما يُخيّل لبعضهم، قد تكون سورية عندها بأهمية برنامجها النووي فهي واسطة العقد الإمبراطوري وجسرها الى المتوسط، ولكي يخرج الاحتلال الإيراني من سورية لا يوجد إلّا طريقان لا ثالث لهما، إما أن يتغير نظام الحكم في إيران نفسها إلى نظام حكم وطني أو يتم تقديم كل أشكال الدعم للشعب السوري لإخراجهم بالقوة، وقد فعلها سابقا عندما تمت هزيمة فيلق القدس وميليشيا الأسد وحزب الله قبل أن يأتي المدد الروسي.

لا أظنّ أنّ أهمية الزيارة تأتي من الاتفاقيات الثمانية التي تم توقيعها، لأنّ الاقتصاد آخر ما يُفكّر به القادة الإيرانيون وهو بالأساس أحد أهم عوامل ضعفهم ولا يراهنون عليه فقد أحالوا سابقاً بلادهم والعراق وهما من أغنى دول العالم بمصادر الطاقة إلى يباب شعوب فقيرة بل جائعة لا تملك أبسط مقومات الحياة الآدمية، وبسبب سيطرة حزب الله على القرار اللبناني بذريعة المقاومة أحال سويسرا الشرق إلى بلد من الخراب والفقر والظلام، لذلك لا مشروع نهضوي عند ولاية الفقيه، وهو ما حاولت زيارة الرئيس الإيراني تظهيره.

لقد تم قبل أيام من وصوله رفع الحواجز من محيط السفارة الإيرانية في دمشق، وتمت أيضا إزالة صورة قاسم سليماني كرمز للحرب والتوسع والاحتلال، وقد انتهت تلك المرحلة بانتصار محور المقاومة كما تم التمهيد بذلك العنوان للزيارة، والتخلي عن مظاهر العسكرة تعني تحقيق الغاية منها وهو الانتصار.

كانت الهتافات المذهبية مُدبّرة ومحكمة بعناية يا علي، يا علي، يا علي، وكان جوهر الزيارة والتي أريد تركيز الضوء عليها هي وقوف الرئيس الإيراني أمام ما يُزعم أنه ضريح السيدة زينب بدمشق وإجهاشه بالبكاء في إشارة الى انتصار مذهبي من قلب عاصمة الأمويين وبالطقوس المذهبية المعروفة.

شاهد أيضاً

ما مصلحة السعودية من التطبيع مع إسرائيل؟

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *