إزالة الغموض والتأني الضروري للسياسات الدولية والعربية نحو سورية

كتبت راغدة درغام في “النهار العربي”:

تترأس روسيا في نيسان مجلس الأمن الدولي، وهو أكبر منصب في الأمم المتحدة يتناوب عليه أعضاء مجلس الأمن شهرياً وفق الترتيب الأبجدي. الأولوية لموسكو- ستبقى أوكرانيا ومعركتها مع الولايات المتحدة، والغرب بعامة. لكن سورية كانت دائماً في طليعة الاهتمامات الروسية في مجلس الأمن حيث تأهّبت باستخدامها الفيتو، لإجهاض أي قرارات لم تعجب موسكو وكبّلت مجلس الأمن منذ عام 2011.
 
بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، قلّصت روسيا اهتماماتها بسورية وأوكلت مهام حماية الرئيس بشار الأسد ونظامه الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية- حليفها الميداني وشريكها في السيطرة على سورية برضا دمشق، بل نزولاً عند حاجة الأسد للبقاء في السلطة. اليوم، يبدو أن الدبلوماسية الروسية قرّرت أن من المفيد لها استعادة اهتمامها المباشر بالمشهد السوري، ليس فقط صيانة لقواعدها العسكرية هناك، بل أيضاً من أجل توطيد العلاقات الروسية – التركية، كما بأمل تحدي الأهداف الأميركية هناك، وكذلك للبناء على انفتاح عدد من الدول العربية على صفحة جديدة مع دمشق. هناك العديد من التساؤلات حول أسباب الانفتاح العربي الجزئي على دمشق وغاياته وسط انقسامات داخل البيت العربي وجامعة الدول العربية. العلاقات الروسية – الإسرائيلية تدخل أيضاً بوتقة التساؤلات وسط ازدياد الغارات الإسرائيلية في ريف دمشق ومواقع أخرى استهدافاً، ليس فقط لمواقع عسكرية سورية، بل بصورة خاصة لمواقع إيرانية عسكرية في سورية.

هناك أيضاً تساؤلات حول حقيقة مواقف إدارة الرئيس جو بايدن من سورية والأسد وحول غايات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الانتخابية عبر البوابة السورية. ثم هناك “قنابل” اللاجئين السوريين التي لا يريدها بشار الأسد داخل الأراضي السورية ولا تريدها الدول الأوروبية في ديارها، والتي تتجاهلها الأسرة الدولية والعربية برمتها كناقوس خطر في لبنان بصفته الدولة المضيفة لملايين من القنابل الموقوتة التي تساهم في تهديد كيانه.

فلنبدأ شيئاً بشيء بتشريح المشهد السوري بأبعاده الخارجية لعلّ في الإمكان كشف بعض ذلك الغموض الذي مكّن بشار الأسد من التغلّب على شعبه وعلى محاولات التخلص منه ومكّنه من أن يبقى فوق المحاسبة عندما استخدم الأسلحة الكيماوية في داره كما وهو يستخدم الشعب اللبناني ومحنته وحدوده السائبة في تهريب مبرمج لاحتياجاته الأساسية.
 
الأسبوع المقبل، سيجتمع نائبو وزراء خارجية كل من روسيا وتركيا وإيران وسورية في موسكو للاتفاق على صفقة جزء من أهدافها الأساسية هو التوصل الى اتفاقية تقوّي بشار الأسد. الرئيس التركي دعا نظيره الروسي فلاديمير بوتين الى المشاركة في تدشين أول مفاعل نووي شيدته شركة روسية وذلك في 27 نيسان، أما بحضوره شخصياً أو عبر الانترنت، مع الاستمرار في تمتين الحديث ما بين الرئيسين عن كل المسائل. وسورية اليوم في طليعة المواضيع المهمة بين الرئيسين.
 
يؤكد المطّلِعون على هذا الملف عن كثب أن أردوغان بات قريباً من الاعتراف بأن الأسد باقٍ، وأن التعامل معه والتجاوب مع المطالب الروسية في شأن سورية أمر لا بد منه، لا سيما على عتبة الانتخابات الرئاسية التركية.

الأسد استفاد من الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية تركياً وعربياً، ذلك أن أردوغان اضطر لتوسيع بيكار اهتماماته وإنجازاته الخارجية للتغطية على ما تتهمه به المعارضة من إخفاق في معالجة البنية التحتية التركية. وهكذا حالف الحظ بشار الأسد عبر كارثة طبيعية رطّبت غطرسة رجب طيب أردوغان وجعلته أكثر استعداداً لمقاربة مختلفة نحو سورية ونحو رئيسها الذي يكرهه.
 
مسيرة الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً أتت لمصلحة الأسد من زاوية حاجة فلاديمير بوتين الى نجاحات تُبعد الأنظار عن الإخفاقات الروسية في أوكرانيا. فلقد مضى 400 يوم على الحرب من دون نجاحات عسكرية وبلا قدرة على القيام بعمليات هجومية تحسم لمصلحة روسيا. الشعب الروسي بدأ يتساءل عن جدوى هذه الحرب وعن معاناته الاقتصادية وتراجع وضع بلاده. ليست هناك تظاهرات علنية إنما هناك ما يسميه الروس بـ”احتجاجات المطبخ” حيث يعبّرون عن حقيقة آرائهم. الرئيس بوتين يعي ذلك ويحتاج لأن يظهر أنه يحافظ على المصالح الروسية الخارجية حيث سوريا في الطليعة جغرافياً، وإيران استراتيجياً.
 
أثناء زيارة وزير خارجية إيران الأخيرة موسكو، تم الاتفاق على استكمال الاتفاقية الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، والتي يفترض أن تشابه الاتفاقية الشاملة بين الصين وإيران. مع حلول نهاية هذا الشهر، يفترض أن يقوم وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بزيارة طهران للتوقيع على الاتفاقية. وعندما قام الرئيس الصيني بزيارة موسكو الشهر الماضي أكد البلدان أن الترويكا الصينية – الروسية – الإيرانية يجب أن تمضي الى الأمام، مع الإقرار باختلاف نوعية علاقة طهران بكل من موسكو وبكين.
 
فالعلاقة الروسية – الإيرانية تحالفية ميدانياً في سورية كما في أوكرانيا. والعلاقات السورية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية كانت دائماً خياراً استراتيجياً لدمشق في عهد كل من الرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد. لذلك، أي كلام عن محاولات لدولٍ عربية للتقرّب مع بشار الأسد بهدف إبعاده عن أحضان إيران إنما هي من صنع الخيال أو أنها تدخل في كلام التمويه فقط. وهذا يأتي بنا الى الشق العربي من المعادلة.

قرارات مجلس الأمن نصّت على قيام الحكومة والمعارضة بالتفاوض على دستور جديد وإجراء انتخابات، إنما القبضة الروسية قضت على القرارات الدولية والمعارضة الليبرالية وعلى الديموقراطية المرجوة لسورية. منذ ذلك الحين وسورية في تآكل، يستقطبها ويستخدمها لاعبون شتى، من تركيا إلى إيران إلى إسرائيل إلى الأكراد إلى الأميركيين والروس كله بحجّة القضاء على “داعش” والإرهاب.

جامعة الدول العربية أصدرت قرارات بعزل سورية الأسد وتجميد عضويتها بسبب الممارسات الهمجية للنظام بما في ذلك تشريد الشعب السوري وتعذيبه. عند ذاك، التزمت الدول العربية قرار الجامعة.
 
اليوم، تنقسم الدول الخليجية وتختلف في مواقفها نحو الأسد وسورية. دول مثل الكويت تختلف عن نهج دول مثل الإمارات. فالكويت مصرّة على الالتزام بقرارات جامعة الدول العربية، فيما الإمارات قررت الانفتاح الكامل على الأسد وفك عزلته باستقبالٍ رسمي له في أبوظبي فاجأ الكثيرين لجهة مستوى الحفاوة. عُمان تتبنى موقفاً مشابهاً للإمارات وهي بدورها استقبلت الأسد. قطر تدخل طرفاً في وساطة هادئة. السعودية قررت فتح قنصلية للتخفيف عن الشعب السوري لكنها لا تبدو جاهزة للقفز على قرارات جامعة الدول العربية. وكذلك البحرين.

عربياً، هناك انقسام ومستويات مختلفة من العلاقات مع سورية. مصر في حوار مستمر مع سورية الأسد عبر ما تعتبره دبلوماسية ناعمة تشمل التعاون مع ممثل الأمم المتحدة، والعمل مع المعارضة، والتفكير بعودة اللاجئين. الأردن يبدو في صدارة إعادة تأهيل الأسد وإعادته الى المسرح العربي لاستئناف العلاقات مع سورية. دول شمال أفريقيا منقسمة إذ إن الجزائر، مثلاً، في طليعة المتأهبين في صفوف دعم الأسد، وحتى تونس تبدو قريبة لها.
 
جميع هذه الدول يتمسك بذريعة إعادة وحدة سورية بعد تفككها لتبرير مواقفها نحو بشار الأسد. والأمر يستحق بعض المناقشة.
 
بشار الأسد انتعش كثيراً بسبب زياراته الخليجية، إنما هذا لم يدفع به الى التفكير التجددي نحو المعارضة، ولا نحو السماح بعودة اللاجئين السوريين الى بلادهم، ولا لجهة احترام سيادة لبنان والتوقف عن استباحة حدوده لتهريب مختلف المواد بما فيها الكبتاغون المتوجه الى الدول الخليجية. وهذا مطلوب من الدول العربية المنفتحة عليه.


لا أحد يشكك في غايات هذه الدول التي تعتقد أن الطريق الصحيح هو ترطيب الأجواء وأن المقاطعة لا تخدم المعارضة. الخوف من تقسيم سورية لا يبرر النزول عند استمرار اضطهاد الحكومة السورية للشعب والمعارضة ولن ينتج موافقتها على دستور جديد. هناك حاجة الى خريطة طريق للداخل السوري كما للعلاقات السورية مع لبنان للكف عن انتهاك سيادته والاستفادة من تدمير اقتصاده ورفض عودة اللاجئين السوريين منه الى بلادهم.


 التأني ضروري كي لا يُفهم من المواقف الخليجية والعربية أنها تضرب بعرض الحائط هذه الاعتبارات الداخلية والخارجية وتنصبّ على تعويم الأسد ونصبه فوق المراقبة والمحاسبة، كما اعتاد. هناك فرصة قيّمة في انخراط دولٍ عربية رئيسية في نهجٍ جديد إذا ما كانت أهدافها واضحة، لا سيما أن لا مصالح لها مع الأسد بما يضعها موضع شكوك.
 
فإذا كان هدف الانفتاح على الرئيس السوري لصالح الشعب السوري من المفيد أن توضح الدول العربية المنفتحة تصورها وتتقدم بخريطة طريق لما في ذهنها ووفق سياساتها بعيداً عن الغموض. هكذا تدحض التأويلات وتوضع حداً للافتراضات.
 
يعتقد البعض أن مواقف هذه الدول تنطلق من رغبتها بالاستقلال عن الإملاء الأميركي. البعض الآخر يرى أن ما يرغب به جزء من هذه الدول هو تهيئة سورية لنقلة نوعية في العلاقات مع إسرائيل تحميها وتصون نظامها، لا سيما أمام إقامة العلاقات التطبيعية الخليجية – الإسرائيلية.
 
السعودية ما زالت تغرّد في سرب مختلف إذ أنها لا تبدو جاهزة للقفز نحو إسرائيل حالياً، ولا للقفز خارج قرارات جامعة الدول العربية نحو سورية، أقلّه الآن.
 
الأمم المتحدة تبدو غائبة عن المسرح السوري منذ سنوات بلا دور يُذكر، أو يُعرَف، لمبعوثها الخاص. لكن لمجلس الأمن قراراته التي كبّلتها روسيا في خضمّ مسيرتها نحو كسر ظهر المعارضة السورية.

روسيا في حيرة أمام الاعتداءات الاسرائيلية داخل سورية، وهي فكّرت سابقاً في احتمال الرد عليها عسكرياً إلا أن مثل هذا القرار قد يربكها في الساحة الأوكرانية. إيران لم تردّ على الهجمات الإسرائيلية على مواقعها في سورية وفي الداخل الإيراني رغم  توعّدِها.
 
إدارة بايدن أيضاً منقسمة في أولوية الحرب الأوكرانية، سياساتها نحو سورية مبعثرة، ساعة تهدد وتؤكد معارضتها تأهيل بشار الأسد، وساعة تعد باستثناءات لقانون “قيصر” للسماح له بالاستفادة من مشاريع كهرباء تعتقد أنها في المصلحة اللبنانية فيما هي في مصلحة الأسد بامتياز.
 
ولو كانت إدارة بايدن حقاً مهتمة بمساعدة لبنان وهو في خضمّ محنته لتنبّهت الى ضرورة كشف رفض بشار الأسد استقبال اللاجئين السوريين الذين استقبلهم لبنان إنما ليس ليصبحوا نصف عدد سكانه، تساندهم الحكومة الأميركية والحكومات الأوروبية والوكالات الدولية بحجج واهية فيما تلك المساعدات تغيب عن شعب الدولة المضيفة وتحوّله الى مواطنٍ بدرجة ثانية في بلاده.
 
لو كانت إدارة بايدن جديّة لتنَبّهت الى التهريب الفاضح للسلع الأساسية من لبنان الى سورية الذي يزيد من دمار الاقتصاد اللبناني وينهك شعبه. فلا يكفي لإدارة بايدن الاحتفاء بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل للتنقيب عن النفط والغاز. فكما أفلحت عندما عقدت العزم، يمكن لها أن تفعل شيئاً على الحدود اللبنانية – السورية لوقف النزيف.

هذا النزيف بالطبع ناتج جزئياً من فساد رجال الدولة اللبنانية وجشعهم وفي طليعتهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري، كما عن إمساك الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله بزمام البلاد عبر سلاحٍ خارج سلاح الدولة.
 
لكن المساهمة السورية دائماً موجودة في المعاناة اللبنانية، وهي اليوم ليست متمثلة فقط في السياسة وإنما في الشراكة الفعلية مع “حزب الله” وعبر التهريب الممنهج ومن خلال استغلال أزمة اللاجئين. وليس في الأمر صدفة.
 
فالمطلوب من جميع المهتمين ببشار الأسد ووحدة أراضي سورية أن يدقّقوا بكلفة غموض سياساتهم على سورية ولبنان وان يتأنوا في مساعيهم الحميدة نحو كل من سورية ومن لبنان.

شاهد أيضاً

عن الاصطفاف الأميركي- الأوروبي مع إسرائيل

خطار أبودياب شكلت مفاجأة تخطي جدار غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منعطفا في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *