“أحفاد الحداد كاواه” يوقدون شعلة نوروز في دمشق


سركيس قصارجيان
النهار العربي:22/3/2023

الشعلة في دمشق


أحيا آلاف الأكراد السوريين في دمشق أمس “عيد نوروز بنسخته 2650” في احتفالات شعبية تخللتها الأغاني والرقصات الكردية التقليدية، من دون أن تغيب آلام الموت وذكريات الهجرة عن كلمات منابر الاحتفال، والشعارات التي أطلقت في ساحات التجمّعات.
وينظر إلى “نوروز” كردياً كاحتفال جماهيري بالوجود الكردي وانعكاساً لثروته الثقافية، ومناسبة للتأكيد على الالتزام بالقيم والتقاليد المتوارثة عبر سنوات ليتم توريثها إلى الأجيال القادمة.


أحفاد كاواه الحداد
مع اقتراب ساعات الظهيرة من نهار الثلثاء الماضي، بدأت حشود المحتفلين بالتوافد إلى “ملعب الفيحاء” في ضاحية الشام الجديدة (مشروع دمر) في العاصمة السورية دمشق. طوابير من المحتفلين على شكل مجموعات يضم كل منها أجيالاً مختلفة وفئات عمرية متفاوتة من الجنسين جاؤوا لإحياء التقليد السنوي في “اليوم الجديد”.
نوروز، نيروز، نوفروز، نافريز، وغيرها من الألفاظ التي تختلف من بلد آسيوي إلى آخر، يرمز بتوقيته في الأسبوع الثالث من آذار (مارس) لعودة الحياة إلى الطبيعة والخصوبة إلى الأرض، وغالباً ما تكون الموائد المجهّزة بهذه المناسبة وفيرة بخيرات الأرض من الفواكه الطازجة بألوان زاهية.
صحيح أن نيروز عيد مشترك بين العديد من الشعوب، “إلا أن له خصوصيّته بالنسبة للأكراد” وفق المهندس عثمان شيخو، الذي يفضّل التعريف عن نفسه كمحب للتاريخ ومطلع على قصص شعوب المنطقة وتقاليدها. يعتبر شيخو المشارك في الاحتفال مع عائلته الكبيرة والمكوّنة من زوجته وأبنائه مع زوجاتهم وبناته مع أزواجهم والأحفاد “نوروز عيداً قومياً للشعوب الآرية، وتعبيراً عن رفض الظلم والطغيان”.
يقول شيخو “نحن أحفاد الحداد كاواه، الذي انتفض ضد الطاغية دوهاك (في بعض المصادر العربية ضحاك)، ومنذ ذلك اليوم وأحفاد كاواه مستمرون في نضالهم رافضين الاستبداد”.


شعلة نوروز
بعد كلمات الترحيب بالكردية والعربية من قبل المقدّمة وشريكها، اللذين اعتليا المسرح المجهّز خصيصاً للمناسبة، احاطت مجموعة مؤلفة من نسوة ورجال كبار في السن موقد نيروز، لإشعال النار الذي يرمز إلى الحريق الكبير الذي أشعله كاواه الحداد بعد هزيمة دوهاك لكي تكون مشاهدة في كل أنحاء البلاد إعلاناً بانتهاء الظلم.
توضيحاً لاستفساري، تخبرني فاتنة وهي واقفة بجانبي بعينين كبيرتين وبشرة بيضاء ناصعة وثوبها الأحمر المزيّن بقطع ذهبية اللون وعلى رأسها شال مربوط بطريقة خاصة لتشبه القبّعة، أن “النسوة اللواتي يشعلن النار هن أمهات شهداء فقدن أبناءهن في المعارك ضد تنظيم “داعش” والمجموعات المسلّحة المدعومة تركياً والتي احتلت مدناً ذات أغلبية كردية في شمال سورية”.
تشتعل نيران نوروز في المشعل، وترتفع أصوات الزغاريد عالياً وسط هتافات وشعارات الحضور باللغة الكردية. يهتف مقدّم الحفل بكلمات متتالية، فتصدح حناجر المحتفلين ترداداً لتلك الكلمات، ومن ثم التصفيق الحار، قبل أن تهتف مقدّمة الحفل بكلمات أخرى طالبة من الحشد تكرارها أيضاً.
أمام المشعل، تلتقط الشابة هيفين ذات الستة عشر عاماً صوراً لها مع صديقاتها “من أجل نشرها على انستغرام” كما تقول “فقد طلبت منها أختها المهاجرة إلى السويد مع بداية الحرب السورية أن تلتقط الكثير من الصور، فالأولاد سيفرحون كثيراً برؤية خالتهم الشابة وهي تحتفل بنوروز”.


عفرين الحاضر الغائب


بدأ أكراد سورية “اليوم الجديد” لهذا العام على وقع جريمة عنصرية في مدينة عفرين، شمال حلب، الواقعة تحت سيطرة الفصائل المسلّحة المدعومة تركياً، حينما أقدم فصيل “أحرار الشرقية” المنضوي تحت مظلة “الجيش الوطني” الذي أسسته أنقرة للسيطرة على المناطق المحتلة من قبلها في شمال البلاد، بقتل 4 مواطنين من عائلة واحدة وإصابة آخرين بجروح خلال احتفالهم بعيد نوروز.
على الرغم من أجواء الفرح السائدة، إلّا أن عفرين الحاضر الغائب والجرح المستمر بالنزيف، بحسب ريفانا، وهي طالبة الهندسة المدنية في جامعة دمشق، المتحدرة من مدينة أشجار الزيتون، كما يسمّيها أهل حلب، والمقيمة في دمشق مع أخيها الأصغر من أجل الدراسة. تقول ريفانا، “هذه المرّة الأولى التي احتفل فيها بنوروز بعيداً من أهلي وأقربائي الذين غدوا مهجّرين في منطقة الشهباء في حلب، بعد سقوط عفرين. أتذكّر احتفالات نوروز في بلدتي، آمل بأن تعود تلك الأيام مرة أخرى”.
تتوالى الفرق الفنّية بالظهور على المسرح، وتطرب فرقة لعازفي “البزق” من الصغار الجمهور بأغنية فولكلورية كردية باسم “باتمان باتمان” (مدينة ذات غالبية كردية في تركيا)، فيبدأ الحشد بالتمايل يميناً ويساراً مع الألحان الصادرة من ضربة أنامل الفتية والفتيات الصغار بأوتار “الآلة القومية الكردية”.
تسمع في الفواصل بين مغادرة فرقة وصعود الأخرى، هتافات وشعارات باللغة الكردية، وتكون كلمات من قبيل “عفرين” و”شاهيدا” مصحوبة بتصفيق وتصفير حارّين، قبل أن يصعد رجل بالزي الشعبي الكردي، ويبدأ أغنيته بإيقاع سريع، محفّزاً الجمهور على الرقص.
تتوزع حلقات الدبكة على كامل مساحة ملعبي السلّة. الكل يرقص من دون استثناء متّبعاً إيعازات الممسك برأس الحلقة، الذي يلوّح بشال ملوّن بمزيج من الأحمر والأبيض والأصفر والأخضر، فيما يصعد شبّان في وسط حلقة الدبكة الأكبر فوق بعضهم البعض على شكل هرم يعلوه أحد الفتية ملّوحاً بالعلم الكردي.


وفي محيط الملاعب، يفترش المحتفلون الأرض الجرداء إلا من بعض الحشائش الاستثنائية التي نبتت بعناد، مصطحبين معهم حافظات الشاي والقهوة وبعض الحلويات الموزّعة على السجاد. تشير المسنّة أم حنّان، ذات الـ68 عاماً، بيدها لي مقدّمة كأساً من الشاي، وقبل أن أبدأ بالحديث معها تباغتني بالاستفسار عن أصلي وفصلي واسم والدي، لتخبرني بالكثير من الاعتزاز أن “والدتها كانت أرمنية أيضاً وبقيت كذلك حتى وفاتها، حيث كانت المسيحية الوحيدة في عائلتها الإيزيدية” وفق روايتها.
نجلس القرفصاء لنتبادل أطراف الحديث، مع تناول بعض الكعك المصنوع منزلياً، “التي لم تستوِ كما يجب بسبب انقطاع الكهرباء لساعات طويلة”، فتخبرني عن قصة وصولها إلى دمشق من رأس العين للإقامة في منزل ابنها الموظف والمقيم في منطقة وادي المشاريع الشعبية في العاصمة السورية.
بعد الانتهاء من شرب الشاي المحلّى بكميات كبيرة من السكر، أودّع أم حنّان، شاقاً طريقي نحو الخارج من بين جمهور المحتفلين، مروراً بعناصر شرطة المرور، الذين يقومون بتنظيم السير في الشارع المواجه للملعب، والذي يشهد ازدحاماً لحيويّته، وهو الذي تغطّى اليوم بالألوان الزاهية والمتنوعة للمحتفلين بنوروز سورية.

ملاحظة : محتوى التقرير يعبر عن رأي كاتبه، وليس له بالضرورة أن يعبر عن السياسة التحريرية للموقع.

شاهد أيضاً

أعْذَرَ مَنْ أَنْذَر.. العبيدات يحذر

موقف المواطن العربي العادي وخاصة السوري من إسرائيل بدأ في التغير بعد ثورات الربيع العربي، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *