في الذكرى الأربعين | ورحل الطيب …!

 كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بالمرحوم الدكتور طيب تيزيني رحمه الله، في خريف عام 1975، وذلك خلال الأسبوع الثقافي الذي أقامه اتحاد شبيبة الثورة في مدينة الحسكة، في مقر البناء الجديد آنذاك لنقابة المعلمين، كنت حينها في الصف الأول الثانوي، وشاركت فيه من خلال رابطة مدينة الحسكة، أسبوع بأكمله كان حافلاً بنشاطات ثقافية وفكرية وشعرية إلى جانب مباريات ثقافية شبابية، وأذكر حينها فازت رابطتنا بالمركز الأول على مستوى المحافظة، وكان للدكتور تيزيني رحمه الله دور مميز في هذا الأسبوع عبر إلقائه محاضرة قيمة،  تناول فيها دور الشباب في المجتمع ووتفاعلهم مع قضايا الشأن العام، الذي كان الشغل الشاغل للجميع، لاسيما النخب الثقافية والفكرية والفلسفية، إلى جانب كونه رئيساً للجنة المشرفة على المباريات الثقافية.
    وبعد التحاقي بجامعة دمشق- كلية الآداب – قسم التاريخ في عام 1978، لطالما بت أشاهد وألتقي كباقي طلبة الكلية د. تيزيني بين الحين والآخر في الكلية المذكورة حديثة الإنشاء على اوتستراد المزة، حيث كان د. تيزيني مدرسا محاضراً في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في الكلية المذكورة، وقد اعتبر د. تيزني إمثولة وقدوة لنا نحن الشباب لما مثله آنذاك من فكر تقدمي يساري وجرأته في طرح رأيه حول مجمل القضايا، التي شكلت هاجساً لمجتمع يبحث له عن موضع قدم في ضوء متغييرات يشهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية وما عرف أنذاك بصراع القطبين الاشتراكي والرأسمالي، ما أعطى فسحة للمفكرين وخاصة الفلاسفة ليدلوا بدلوهم من خلال تقديم رؤية فلسفية للتحولات التي تشهدها المجتمعات، وما يتطلبه ذلك من دور يقع على عاتق النظم السياسة والأحزاب ومختلف المنظمات، وإفساحها المجال أمام متخلف القطاعات لأخذ دورها، وفق منهجية علمية تبنى على أسس ديمقراطية واحترام الرأي والرأي الآخر.
   لم يسعفني القدر إكمال دراستي في قسم التاريخ بكلية الآداب بعد أن وصلت للسنة الثالثة، إذ حصلت على موافقة إيفاد دراسي جامعي جديد باختصاص علاقات دولية إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1982، حصلت بنتيجة ذلك على ماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كييف الحكومية كلية العلاقات الدولية والقانون الدولي في عام 1988.
       بعد عودتي إلى سورية واستقراري في دمشق بحكم العمل، بت أتردد على كليتي السابقة لأحظى برؤية د. تيزيني مجدداً من خلال الندوات التي كانت تقام في الكلية أو حضور محاضرات له في المراكز الثقافية في دمشق، ناهيك عن متابعتي لما كان ينشره في الصحف العربية الخليجية، بعد أن سدت أمامه منافذ الإعلام المحلي السوري، بسبب أرائه وما يطرحه من وجهات نظر فلسفية لم تعجب سلطات الأمر الواقع بإيعاز من الأجهزة الأمنية التي كانت تضييق الخناق عليه، ولكن أتيح له فرصة بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000، وبداية ما عرف وأطلق عليه بربيع دمشق في عام 2001 على ما أذكر، في إطار محاولة تجميل العهد الجديد، حيث نشر له ثلاث مقالات أو مواد في الصفحة الأخيرة من صحيفة ” تشرين ” تحت عنوان ” الدولة الأمنية “، تلك المواد التي أسست لحالة جديدة لم نعتاد عليها في الإعلام السوري ولا حتى في سورية على مدار ثلاثة عقود ويزيد، وهي أن يسمح ويتاح لمفكر أو كاتب وخاصة شخصية معروفة بجرأتها ونقدها كشخصية  د. تيزيني، ما أعطانا بريق أمل، لم يدم كثيراً ، حيث عدنا مجدداً إلى المربع الأول، وفق مبدأ وكأنك يا زيد ما غزيت، لنحرم من جديد من الغذاء المعرفي الفلسفي للطيب تيزيني وأمثاله، ولكن كل ذلك لم يمنع د. تيزيني من مواصلة كتاباته عبر الإعلام الخليجي، أو من خلال إلقاءه المحاضرات في المراكز الثقافية، لاسيما وأن السلطة ومن وراءها الأجهزة الأمنية، تدرك تماما أن كل ما يطرح في هذه المراكز، ومهما خرج منه للخارج من فتات الكلام، لكن سيبقى داخل جدران تلك المراكز، ولن يكن له ذاك الوقع والتأثير كما لو اتيح له أن يعمم وينشر عبر مختلف وسائل الإعلام، حتى المناظرة المشهورة للمرحوم تيزيني على شاشة التلفزيون الرسمي، كان النظام على ثقة مطلقة أن د. تيزيني لن يتجاوز الخطوط الحمر المسموح بها سلطوياً ومجتمعياً بحكم حساسية الموضوع المثار خلالها مع الدكتور محمد سعيد البوطي ..
   قبل أن أنهي ما بدأت، سأروي حادثة حصلت معي في عام 2005 عندما كنت مدير تحرير لمجلة ” المناضل ” المجلة الداخلية لحزب البعث العربي الاشتراكي- القيادة القومية، اتصلت مع المرحوم د. تيزيني وعرضت عليه فتح باب التعاون من خلال تزويدنا بمقالات للمجلة، طبعاً رد بدماثته المعهودة وهدوئه المعروف وقال لي : كيف تتجرأ ووتقترح علي الكتابة في مطبوعة أنت مديرها وتابعة لجهة سلطوية حزبية، ألا تخاف من المساءلة والتحقيق والسين والجيم، رددت عليه بالقول : يشرفني أن تتزين المجلة بكتابات أمثالك وأنت القامة الوطنية المرموقة، وليحصل ما يحصل، هدأ من حماسي وأعتذر بكل تواضع، وقال: يا صديقي لن أكون السبب في خلق مشاكل لك، ثانياً : لن تسطيع لا أنت ولا رئيس تحرير المجلة، نشر ما سأكتبه، لذا لا ضرورة من إضاعة الوقت وهدره.
كان هذا الاتصال آخر تواصل مع د. تيزيني رحمه الله, ولم ألتقيه بعد ذلك، مع استمرار متابعتي لكل ما كان ينشره، وصولاً لما تفضل به رحمه الله فيما عرف بلقاء صحارى التشاوري تموز عام 2011 على ما أذكر.
  مهما كتب وقيل عن د. تيزيني، يبقى كل ذلك قاصراً عن الارتقاء لمستوى هكذا قامة وطنية، ولن يفيه حقه فيما قدمه للمكتبة العربية ولطلابه، وما يؤسف أكثر وقد يكون ذلك شرفاً له، أنه لم يكرم من هذه السلطة التي طالما نقدها وأتهمها بخلخلة البنية المجتمعية عبر أجهزتها الأمنية، يكفيه فخراً أنه صنف بين مائة من الفلاسفة على مستوى العالم.
22 / 6 / 2019
                                                          كاتب وإعلامي غياث كنعو – المانيا

شاهد أيضاً

عن الاصطفاف الأميركي- الأوروبي مع إسرائيل

خطار أبودياب شكلت مفاجأة تخطي جدار غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منعطفا في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *