قصة الحجم







إبراهيم الجبين 
الجمعة 18 / 12 / 2020

          الحياة العصرية خشبة مسرح كبيرة

الحياة العصرية تعني أن على الإنسان أن يتوقف عن التصرّف وكأنه في البريّة. لا انفعالات ولا فزعات ولا هبّات. وتعني كذلك أن تتحول يومياتنا إلى خشبة مسرح كبيرة ومزمنة، يمثّل فيها واحدنا دوراً جديداً في كل موقف جديد مع زملاء آخرين يتقنون اللعبة أو يفشل بعضهم في حفظ دوره وتقمّص شخصياته.

كثيراً ما نقول ذلك الكلام ونحن نكاد نستغرب أشد الاستغراب، لكن أليست هذه هي الحياة الطبيعية؟ ولماذا كنا نريدها على الدوام حياة فطرية منفلتة المعايير؟ وما المثير في حياة تحرّكها الانفعالات والغرائز، بينما تسهم اللغة الفنية العالية وأساليب التواصل “الحيوية لا الافتراضية اللعينة” والملامح والحيل الذهنية في تعزيز التفاعلات بين البشر.

في المستقبل سيكتشف القادمون من العالم الذاتي المليء بالأشجان، أنهم ضيعوا الكثير من الوقت بانتظار أن تصبح الدنيا مثل عالمهم. لا بأس بالغرام والشوق وغيرهما، لكن العالم لم يعد تلك الصحراء التي كنا نقطع فيها مسافات طويلة على ظهور المطايا، بل باتت تفصلك عن التنقل ما بين قاراته دقائق وساعات قليلة بالطائرات وقريباً بالقطار الهايبري الخارق. فما الداعي لكل ذلك التأوه والتلوّي؟

كان من بين صحبنا في الماضي، أحد أبناء الريف الذين غرق بعضهم في البساطة والطيبة لدرجة بدوا معها وكأنهم ليسوا من كوكبنا. سافر يوماً ما ليحضر دورة ألعاب أولمبية في إحدى العواصم الأوروبية، ممثلاً عن رياضته كرة الطاولة، أي “بينغ بونغ”، فدمّر أعصاب أعضاء البعثة بأبيات العتابا التي كان يردّدها كل ليلة ويحرمهم منامهم لأنه يشتاق إلى أمه وقريته، ورحلته كلها بضعة أيام، وما إن كان المساء يحلّ، وما إن كان الفريق يعود من مشاهدة الرقص المائي، والباليه وألعاب القوى الراقية، حتى ينطلق صاحبنا بالآهات والمواويل التي تبدأ بـ”آه.. وين أهلنا؟” فيتفجّر الأنين وتنهمر الدموع حتى إلى أقصى صورهما الكاريكاتيرية.

لا بدّ من الفرح، ولا بدّ من الأمل، ولا بدّ من وعي الذات بعيدا عن الأوهام، وما أكثر الأوهام، وما أشدّ تأثيرها علينا في شؤوننا كافة. فقد يتصوّر بعضنا حجماً غير حجمه الحقيقي، ويتخيل عن نفسه أشياء، ربما كان يبالغ فيها ولكنه تعايش معها حتى اعتقد أنها هي الحقيقة، وخاصة في هذا الوقت الذي انتشرت فيه منصات التعبير عن الذات، فيظن نفسه مؤسسة أو قائداً تاريخياً، ويصبح حريصاً على تصدير مواقفه ببيانات مواكباً الأحداث مثلما تفعل وزارة خارجية دولة عظمى. بينما الحياة أبسط من ذلك، وهو مجرّد فرد عمره قصير، من بين مليارات يعيشون فوق كوكب صغير يبدو كنقطة لا تكاد تُرى في المجرّة وسط الكون الواسع.


                    إبراهيم الجبين 
               
                  كاتب سوري 

أدناه رابط المادة كما تنشر في صحيفة ” العرب ” اللندنية 
https://alarab-co-uk.cdn.ampproject.org/c/s/alarab.co.uk/%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D9%85?amp

 

شاهد أيضاً

أمريكا وضياع بوصلتها في رمال الشرق الأوسط المتحركة

د. عبد الله خليفة الشايجي استاذ في قسم العلوم السياسية ـ جامعة الكويت (بتصرف) منذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *