موقع حلب في الاستراتيجية التركية، لكن ماذا عن نظام الملالي؟

كتب د. باسل معرواي

أطلق بشار الأسد النار على مسار إصلاح العلاقة مع تركيا، عندما تَحدّث بصفاقته المعهودة عن رفضه إجراء أي لقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل سحب الأخير لقوات بلاده من الأراضي السورية، وربط بداية الأسد أي مسار جدي للتقارب بين أنقرة ودمشق بذلك الانسحاب، ووقف الدعم لمجموعات المعارضة السورية (مدنية وعسكرية)، وهو شرط تعجيزي لا يراد منه البدء بمسار سياسي بين نظام الأسد والجمهورية التركية.

وقال الأسد ببلاهته وبلادته المعهودة هل أجتمع أنا وأردوغان لتناول المرطبات مثلاً، وكان الرئيس التركي ووزير دفاعه وغيره من المسؤولين الكبار أعربوا عن عدم إمكانية سحب القوات التركية من سورية قبل ضمان ثلاث مسائل بمنتهى الأهمية، تمسّ جوهر الأمن القومي لبلادهم وهي حلّ مشكلة اللجوء السوري ومحاربة الإرهاب والبدء بعملية سياسية في سورية وبالطبع يُدرك الساسة الأتراك عدم رغبة وقدرة الأسد على تنفيذ ذلك على الأرض.

ولأن المسار الرباعي الذي اقترحته ورعته موسكو يسير كالسلحفاة العجوز، ولأنّ الراعي الروسي لم يعد يملك العصا التي يهشّ بها على غنمه أو الدرّة التي يُقوّم بها اعوجاجهم عن مساره حيث تم كسر تلك العصا ونزع الدرّة من يده في أوكرانيا، فإنه يضغط على الأطراف الثلاثة من باب المونة عليهم، حتى إن الراعي الروسي فقد الجزر الذي يمكن التلويح به لإغراء المترددين أو الطامعين بعطاياه ومكافآته.

ونعلم قصة حلب والموصل مع تركيا والتي لم تعترف بعد انهيار السلطنة العثمانية بانسلاخهما عنها والاعتراف باتفاقية سايكس بيكو، إلا بعد أن قام مصطفى كمال أتاتورك بإسقاط اتفاقية سيفر والوصول لاتفاقية لوزان (تموز 1923)، حيث رسمت تلك الاتفاقية الشهيرة حدود الجمهورية التركية الجديدة وتخلى بموجبها أتاتورك رسمياً عن أملاك السلطنة العثمانية في بلاد العرب قاطبةً، وأضحت الجمهورية التركية بحدودها الحالية المعترف بها أممياً.

وبين الفترة والأخرى تقوم بعض مراكز الأبحاث أو السياسيون الحالمون بالتاريخ بنشر خرائط زرقاء للعالم التركي تكون فيها حلب وحماة امتداداً إلى الموصل أجزاءً منه، وأعتقد أن الألفية الثالثة شهدت إخفاقات لمن حاول تغيير الجغرافيا وضم أراض من دول وطنية ذات سيادة أخرى وآخرهم والذي يدفع الأثمان الغالية هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث تُعتبر حصانة الحدود الوطنية للدول من القواعد الرئيسية للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وأظنّ أنّ العقلية التركية التي تُفكّر من منطلقات قومية بحتة ترى امتداداً أو بمعنى نفوذاً أو ريادة وقيادة بالنموذج للعالم التركي في أواسط آسيا في مجموعة الدول المستقلة الخمسة والتي أنشأت مع أنقرة رابطة الدول التركية، واهتمام الساسة أو المخططين الاستراتيجيين الأتراك على الدول العربية المحاذية للجنوب التركي، ينطلق من ضرورات أمنية ومصالح اقتصادية ولا تُفكّر أي قيادة تركية مستقبلية بِضمّ أجزاء من سورية والعراق ..فتركيا دولة قومية ذات اقتصاد صناعي رأسمالي حديث يقوم على الإنتاج وليست دولة أيدولوجية ريعية تعيش في التاريخ وتسعى لإحيائه…بل هي دولة عضو بالناتو وتسعى منذ عشرين عاماً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

في الاجتماع الأخير لنواب وزراء الخارجية لدول المسار الرباعي قال الروس إنهم قدموا مسودة خارطة طريق لدفع المسار ليكون مُنتجاً وذا جدوى وينتظرون تعديلات من الأطراف عليها للتباحث بشأنها.

بالطبع لا يملك الأفرقاء الثلاثة الآخرين أي نِيّة أو حماسة لدفع المسار للأمام، فإيران ونظام الأسد لا يرغبان بل سيقاومان أي توسع أو ازدياد بقوة الدور التركي في سورية ويبغيا محاصرته وتحجيمه وإنهاءه (عندما تسنح الفرصة لهما، ويسعيان (وهو ما يحصل على الأرض وفي الفضاء السياسي) إلى أن تكون إيران هي الوريثة الوحيدة للنفوذ الروسي ولا يريدان منافسة من أحد.

مع إدراك إيران لقوة تركيا الناعمة إن تمكنت من التغلغل في بقية المناطق السورية وتلك القوة الناعمة لا تمتلكها إيران ونموذجها مكروه من الشعوب (نموذج تحطيم الدولة وسيطرة الميليشيات وغياب أبسط أنواع الخدمات التي ينشدها السكان) بينما النفوذ التركي مقبولاً أكثر من الإيراني بقوته الناعمة المعروفة حيث باتت مناطق نظام الأسد والتي تعاني معيشة ضنكى بأمس الحاجة للشركات التركية لإنقاذ الوضع الاقتصادي الكارثي وبالطبع لا ترى أغلبية السكان السوريين من الدولة التركية السنية طموحاً او سعياً للتدخل في عقائد الناس إذ تهتم تركيا العلمانية بالاقتصاد أولا ًوأخيراً.

ألمح الرئيس التركي لخططه المستقبلية في سورية، حيث أعطى التوجيهات بتشكيل ثلاث لجان تتعاطى مع الشمال السوري وتنميته تمهيداً لجعله جاذباً للاجئين من تركيا بما يُؤمن عودة طوعية حقيقية لبلادهم.

لجنة من وزارة الداخلية ولجنة من الحزب الحاكم ولجنة من الكتلة البرلمانية الأكبر …تكون مهماتها دراسة وإقرار التشريعات اللازمة لإنجاز بيئة استثمارية جاذبة وافتتاح مشاريع إنتاجية وإقامة منشآت صناعية كبيرة تتيح فرص العمل للمقيمين والمتوقع عودتهم من الداخل التركي وتشجيع رجال الأعمال الأتراك بإعطاء حوافز مجزية على الاستثمار في الشمال السوري خاصة أنّ منطقة “درع الفرات” معفية من عقوبات قانون قيصر.

ويلزم ذلك الحصول على وقف إطلاق نار مستدام مع قوات النظام والميليشيات الإيرانية وهو ما تصبو تركيا لتحقيقه في زيارة الرئيس الروسي لأنقرة المتوقعة في هذا الشهر أو الشهر المقبل، وسيكون الملف السوري حاضراً بين الرئيسين إلى جانب غيره من الملفات، وستكون تركيا ملتزمة بتقديم خارطة الطريق التي وعدت بها حيث ستقدم خارطة تعجيزية تتضمن معاملة خاصة لمدينة حلب كون نسبة كبيرة من اللاجئين السوريين في تركيا ينحدرون منها بحيث تتضمن تلك الخطة إنشاء مناطق صناعية داخل حلب المدينة وضمان حماية أممية لها بحيث تتيح فرصاً للعمل جديدة وتؤمن عودة السكان إلى منازلهم التي أُخرجوا منها.

بالطبع سيتحفّظ الروس على كثير من النقاط ولكن نظام الأسد وإيران سيرفضان أي خطط تركية للتغلغل إلى حلب المدينة والتي تحاول إيران الآن جعلها حمدانية المذهب بالكامل إضافةً لوجودها العسكري النوعي فيها، وقد تتمكن تركيا بضغط روسي وفي ظل رفض نظام الأسد وإيران للخطة التركية بخصوص مدينة حلب من الحصول على وقف إطلاق النار الذي تسعى اليه أنقرة.

ويصب مقال ياسين أقطاي المستشار السابق للرئيس التركي والعضو المهم في حزب العدالة والتنمية في صحيفة يني شفق حول ضرورة أن تكون حلب تحت سيطرة أممية أو ما نشرته صحيفة صباح التركية بأن الرئيس التركي أوعز بالتحضير لمشروع يجري التفاوض عليه بين أنقرة وموسكو ودمشق بخصوص محافظة حلب والتي تسعى أنقرة لتحويلها إلى منطقة جاذبة للاجئين السوريين.

تصب تلك التسريبات في أنّ تركيا ستتقدم بخارطة طريق حول علاقتها المستقبلية بدمشق للرئيس بوتين التزاماً منها بالوعد الذي قطعته على نفسها بتقديم تلك الخريطة…وسيتم رفضها من قبل سلطة نظام الأسد كما هو مؤكد للحصول على أضعف الإيمان من الأسد وإيران بالتوصل لتوقيع هدنة طويلة، تكون مركب لتقطيع الوقت لنهاية هذا العام في بحر الملف السوري المتلاطم الأمواج والذي تعصف به الرياح العاتية، وأملاّ في تغيير موازين قوى على الأرض بسبب وهن روسي يزداد وضوحاً مع مرور أيام الحرب في أوكرانيا وتقارب حقيقي بين أنقرة وواشنطن، بحيث نكون أمام معادلات جديدة على الأرض في الربيع القادم وبالتأكيد لن تكون في صالح نظام الأسد وحليفه الإيراني.

نقلاً عن “نينار برس” بتصرف

شاهد أيضاً

حروب الصورة والوردة الإسرائيلية

لا حدود لمظاهر الانحياز الفاضح للرواية الإسرائيلية ولجيش الاحتلال الإسرائيلي لدى كبريات وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمسموعة والمرئية على حدّ سواء؛ خاصة تلك التي تزعم عراقة في التأسيس والتقاليد والمهنية العالية (مثل الـBBC البريطانية)، والكفاءة التكنولوجية الفائقة في مختلف جوانب التغطية المباشرة أو عن بُعد (مثل الـCNN الأمريكية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *