السوري الذي صار يهودياً

كتب عمر قدور في موقع “المدن”

وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها إبعاداً قسرياً إلى داخل الحدود السورية لما لا يقل عن 168 لاجئاً سورياً في لبنان، منذ مطلع الشهر الحالي، وتراوحت أشكال إبعاد هؤلاء، بين رميهم خلف الحدود أو تسليمهم بلا وثائق يمكن على أساسها السعي إلى معرفة مصائرهم. في معظم الحالات هناك حديث عن تلقّي الضحايا إهانات، أو ضرب وتعذيب، قبل رميهم خارج الحدود كيفما كان، أو تسليمهم إلى قوات الأسد في الجهة المقابلة.

يوم الاثنين الفائت قُتل لاجئ سوري، في ولاية كلس التركية طعناً بالسكاكين، بأيدي مجموعة من الشبان الأتراك، وهي ليست الحادثة الأولى التي ينهال فيها شبان أتراك طعناً بالسكاكين على ضحية سورية. حرس الحدود التركي يطلق النار عشوائياً على أي سوري يقترب من الحدود، من دون أن يشكّل خطراً على الحرس. ويؤكد تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش صدر يوم الخميس الروايات المتداولة سابقاً عن قيام أفراد من الحرس بالقبض على الذين يحاولون التسلل، والقيام بتعذيبهم واستخدام القوة المفرطة، وهناك روايات لضحايا تم اقتيادهم إلى مراكز للجندرمة والتنكيل بهم فيها، ثم أعيد رميهم داخل الحدود السورية.

أما عن السعار العنصري اللبناني تجاه السوريين مؤخراً فقد تجاوز كل حدود الحياء، وحتى المنطق السياسي. مثلاً، قال المرشح الأقوى للرئاسة سليمان فرنجية في حديث إلى تلفزيون الجديد: “لستُ مستعداً للتآمر على لبنان من أجل سورية، بل سأتآمر على سوريا من أجل لبنان، ولا يمكن أن أقبل ببقاء النازحين إذا لم يوافق الرئيس الأسد على عودتهم، رغم أنه يقبل بذلك”. في الواقع لا يوجد طريقة لعدم قبول بقاء اللاجئين السوريين، إذا لم يوافق الأسد على عودتهم، سوى رميهم على النحو الذي تعرض له العشرات خلال هذا الشهر فقط. أما ما دون المرشح الرئاسي العتيد، فقد صدرت مؤخراً دعوات عنصرية فاجرة من لبنانيين آخرين، وتفاخرَ بها أصحابها في غياب فعلي تام للروادع القانونية والأخلاقية.

ما يحدث اليوم من جرائم مباشرة وغير مباشرة ضد السوريين لا يُحتسب على جرائم سابقة مشابهة، حتى إذا كانت تلك بدوافع عنصرية أيضاً. المختلف اليوم هو حجم المواكبة والتحريض الجماعي على ارتكاب الجريمة، والاستقواء العلني البذيء بأن الجريمة ضد السوري هي بلا عقاب. الإفلات من العقاب يتغذّى أولاً من بقاء الأسد في السلطة، فإذا كان الذي ارتكب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية لم يتعرّض للمساءلة الدولية فإن من يرتكب جريمة إبادة أصغر لا يجد نفسه في موقع التجريم، واستخدام تعبير “جريمة الإبادة” هو توصيف يقارب المُشتهى من قبل أولئك العنصريين، ولو لم يوضع تحريضهم بأكمله قيد التنفيذ.

بقاء الأسد لا يغذّي الجرائم أو التحريض عليها من جهة إفلاته من العقاب فقط، فبقاؤه يعيد طرح مشكلة اللاجئين على النحو الذي لم يكن مطروحاً من قبل. لقد كانت قضية اللاجئين طوال سنوات في إطار المؤقت، والذي يمكن احتماله ولو على مضض أو كره بما أنه مؤقت، والمؤقت مرتبط هنا بتسوية ما في سوريا تتكفل بإيجاد مناخ سلمي لعودة اللاجئين، أو ما كان يُسمى طوال الوقت “عودة طوعية آمنة”. مع الإقرار ببقاء الأسد تبخّرَ وعدُ العودة الطوعية الآمنة المؤجّل، وفقدَ بعض المدافعين عن اللاجئين “من أبناء بلدان اللجوء” حجتهم التي تنص على أن استضافتهم مؤقتة، لتبقى المراهنة الضعيفة على العوامل الإنسانية في غياب القوانين التي تحمي اللاجئين، وتحمي مَن يدافع عنهم.

السُعار العنصري الأخير مسنود ومدفوع بمواقف دول هي الأكثر تأثيراً في المنطقة، فالتطبيع السعودي مع الأسد وضع في الواجهة السعي إلى حل مجموعة من القضايا منها قضية اللاجئين. انعطافة أردوغان في اتجاه الأسد تلطّت أيضاً وراء عبء اللاجئين على بلاده، وقوبلت من معارضيه بمزايدات، إذ تعهد بعضهم بإعادة اللاجئين إلى سوريا خلال سنتين بالاتفاق مع الأسد، والأكثر مغالاة يعدُ اليوم بإعادة اللاجئين فوراً وباستخدام القوة “ضدهم بالطبع”. وكان ملك الأردن، الذي أطلق أول مبادرة عربية للتطبيع مع الأسد، قد وضع إعادة اللاجئين في طليعة الأهداف، مع المطالبة بوقف الأسد تصدير الكبتاغون. 

أيضاً ما يقوله مجمل المواقف الإقليمية أن الأسد باقٍ كما هو، وينبغي البحث عن حل المشكلات التي كانت معلّقة في انتظار رحيله أو انتظار تسوية تغيّر من سلوكه وتسمح بعودة آمنة للاجئين، حتى إذا لم تكن طوعية تماماً. ترجمةُ القبول بالأسد كما هو تنعكس بدفع اللاجئين بالقوة كي يعودوا إلى سوريا، حتى إذا كان احتمال تعرّضهم للقتل مرتفعاً جداً أو أكيداً. وكي يصلوا هم إلى هذه القناعة لا بأس بالتضييق عليهم إلى حد لا يُطاق، ولا بأس بقتل البعض منهم بطريقة وحشية لا يعود فيها مصيرهم إذا عادوا هو الأشد سوءاً.

ترجمة ما يحدث، بلا تزويق، هي: تعالوا نعيد بشتّى الطرق وأحطّها اللاجئين إلى الهولوكست الذي هربوا منه. واستعارتنا المحرقة النازية ليست على سبيل المبالغة أو الشتيمة، بل هي استعادة الأجواء التي لقي فيها هتلر تشجيعاً صريحاً أو خفيّاً، أو تعاوناً أو تجاهلاً، في التعامل العنصري مع اليهود وصولاً لحرق الملايين منهم. نذكّر هنا بالأجواء المسمومة تجاه اليهود منذ القرن التاسع عشر، واشتُهرت في أواخره قضية الضابط دريفوس لأن القضاء الفرنسي آنذاك كان معادياً لليهود. لكن قبل تلك القضية وبعدها، وعلى نحو أشد منذ الكساد الكبير الذي بدأ عام 1929، راحت التعبئة ضد اليهود تستخدم ذرائع اقتصادية، وتصوّر سيطرة الأثرياء منهم في أسواق المال سبباً أساسياً أو وحيداً للأزمات الاقتصادية الأوروبية.

بمؤازرة قوية وحثيثة من هذه الدعاية تم سوق اليهود الفرنسيين، ومن دول أوروبية عديدة، ليُقتلوا في محرقة هتلر. واليوم يُعامل السوري كيهودي ذلك الزمن، أي بوصفه سبباً أساسياً أو وحيداً للأزمات المعيشية في دول الجوار، والحل من أجل التخلص من لعنته هو إرساله إلى هتلر. كانت دعاية الحزب سبّاقة في وصف السوريين باليهود، عندما كانت الآلة العسكرية للحزب تقتل السوريين في يبرود والقصير وسواهما من مدن وبلدات سورية. أما البشرية عموماً فلم تتعلم من درس المحرقة الأول، أو أنها تملك من الفراسة ما يجعلها مطمئنة إلى أن السوريين الذين يُعاملون اليوم كيهود لن تكون لهم فرصة التشبّه بقاتلهم كما حدث بعد المحرقة الأولى

شاهد أيضاً

عن الاصطفاف الأميركي- الأوروبي مع إسرائيل

خطار أبودياب شكلت مفاجأة تخطي جدار غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منعطفا في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *