صوت صارخ في البرّية”… الراهب الأحمر: الأب يوسف القزي إنتقل إلى شغفه بالعالم الآخر

كتب الأب جاد القصيفي: 

صباح يوم أمس الثلثاء 30 أيار 2022 إنطفأ بهدوء الأب يوسف القزي، الراهب اللبناني الماروني. العالم والباحث والثائر والعلامة والوجه الرهباني والكنسي الجميل. لقد هوى صُعُدًا. فالأنبياء يموتون واقفين.
من خارج المكان، كصورةٍ خارج إطارها أو كنَسرٍ يسبح في فضاءٍ لا يعرفه. ومن خارج السّياق، ثورة هادئة ومتواصلة. الأب يوسف القزي: صوتٌ صارخ وصادح، صامت وبليغ. راهب وكاهن وناسك في محراب الكلمة التي جعلت منه أيقونة لكل مفكّرٍ وثائر وباحثٍ عن قضية وكنيسة.

عرفته متأخرًا عام 2007. وكنت قد سمعت عنه كثيرًا وقرأت عنه وله أكثر. شامخ، عصامي، مثقف، نجح بتوطيد مكانته العلمية والفكرية وتوسيع شهرته ومؤلّفاته وأبحاثه. دفع غاليًا ثمن النجاح وثمن تخطّي المحظورات والموروثات الدينية، خاصة أنه لا يحبّ ديماغوجية الباحثين ولا ثرثرة المثقفين العاجزة ولا سفسطة اللاهوتيين العقيمة. طوال عقود كان باحثًا برتبة معلّم وكاتبًا برتبة علاّمة. رجل هادئ وثائر. وصفه أحد أصدقائه الرهبان بقوله: إنه “الراهب الأحمر”.

يوم السبت الماضي زرته في المستشفى بصحبة الأب جوزف مكرزل. دخلت عليه قبل الأب مكرزل فما أن رآني حتى نزع عنه غطاء الأوكسيجين وقال لي بصوته الأبحّ: “جاد كيفك؟ وينو مكرزل؟ قل له أنو مني عارف شو بني”.
لم أدرك أن هذا اللقاء معه سيكون الأخير.
لا يُختصر الأب يوسف القزي بكلمات. فسيرته فائضة بمحطّات مشرقة، وأفكاره باقية لأنها ثورة مستمرّة وبركان لا يستكين. إنه الكاهن والناسك في صومعة الروح والكلمة. رجل كنيسة ونموذج استقامة… رَحَلَ باكرًا إلى المكان الأحب إلى قلبه، إنتقل إلى شغفه بالعالم الآخر.
بين مسقط رأسه في الجيّة، وبين جامعة الروح القدس- الكسليك وبين دير سيدة النصر في غوسطا حيث أمضى معظم حياته يكتب، ويبحث ويعلّم، كانت رحلة ومسيرة عبرت كالحلم. كان قلقًا دائمًا. ثائرًا دون هوادة. ثائرًا على الله. وقلقًا حتى على الله. ثائرًا على ما آلت إليه الأديان وقد اعتبر أن الله براء من ذلك. كانت الطمأنينة عدوّه الأوحد. ولد الأب يوسف قزي وعاش ومات ثائرًا. يجادل، يحاجج، يناقش، ويرفض كل الموروثات. علّم أجيالاً من الرهبانية اللبنانية المارونية ومن الإكليروس الماروني. وطوال عقود عَبَرَت كالسهم… كانت مسافة ومساحة ومسيرة ملأها “أبونا يوسف” روحًا وفكرًا وكلمة، اختبارًا واختمارًا في الروح والإنسان. إنه الماروني الطائر. الكاهن الثائر. الأستاذ النّبيل. إلاّ أنّه بقي فوق كلّ شيء أحد “المعترضين” في “بيت مارون”، أحد “المشاغبين” في المشرق، وواحدًا من “المشاكسين المستنيرين” في أمة بني مارون. هو العالِم والكاهن والمفكّر والباحث والكاتب في آنٍ واحد. لقد كان مدركًا أنه صوتٌ لآخرين لا صوت لهم أو جرأة. ليس لأفكاره فقط، بل لدفاعه المستميت عن القضايا الكبرى، قضايا الإنسان والحرية والكنيسة، التي عاشها بوصفه كاهنًا مارونيًّا يضع أولاً قضية الحريّة بكل أبعادها على رأس كلّ القضايا التي يجب على رجل الدّين أو أيّ باحثٍ ومثقّف أو ثائر الدفاع عنها.

سيرته ونتاجه هما الحصيلة التراكمية لرحلة إنسانية كنسيّة ومسيرة لاهوتية وفكرية وحضارية مشبعة، طبعت رهبانيته ومجتمعه. وزيت أفكاره الذي لم يزل يشتعل في مصابيح العديد من أبناء جيلنا قد طبع وأثرى الدراسات الدينية وأعطاها بُعدًا وأُفقًا وتحدّيًا.
شغّل الأب يوسف القزي فكره والكلمة في محاولة منه لتفكيك القيود السّاجنة في قبضتها فكر الإنسان الحرّ. ولم يجفّ الحبر في دواته، فحارب بقلمه العوسج الواقف عثرة أمام تحرّر الإنسان المشرقي. هو الكاهن الملتزم، الذي آمن بأن لكل امرء حقًّا وواجبًا في التعبير عن مبادئه وأفكاره ومعتقداته الدينية والسياسية والفكريّة بحريّة. يوسف القزي هنا استبق بيئته مفكرًا إنسانيًّا مرهفًا ونهضويًّا ملتزمًا قضايا الإنسان ووجعه، أيّ إنسان في كل زمان ومكان. فهو إبن الرهبانية اللبنانية المارونية ولكنه دائمًا إبن الكنيسة الجامعة لا بل الإنسانية الشاملة. هكذا أراد أبونا يوسف من كتاباته أن تنعكس ضوءًا في تاريخ المشرق وتنير ظلمته… كأنّي به مردّدٌ في وجدانه عبارة أمين الريحاني الشهيرة: “متى تحوّلين وجهك نحو الشرق أيتها الحرية”؟

بعد رحلة طويلة مع المرض، آثر جسد الأب يوسف القزي الراحة على إكمال قتاله. لم يهزمه الموت. هو ذهب إليه عند انتهاء الوقت، تمامًا كالنسور التي تحلّق… كي لا تعود. هو من المؤمنين في العمق أن الحياة الحقيقية موجودة في مكان آخر. وكأنه كان عارفا باقترابِ أوان موته، فصلّى وتضرّع وصرخ مرارا قبل أن يتسلل إليه هذا الموت ويعانقه ويغادر به وقد كان يريد أن يزور بلدته الجية في رحلة وداعية لكن الموت عاجله.
لم يرد الأب يوسف أن نراه ضعيفا، سقيما، فأكثر من صلواته وهو يدنو، بهدوء من رحلته الأبدية. إستمرّ يكتب ويصلّي. والكتابة تحوّلت عنده ومعه إلى صلاة. كان الأب يوسف يصلي عبر الحبر. كان شغوفا بالقلم والحبر. إختار الكتابة والكتابة اختارته.
تحقق له ما أراد وغادر بهدوء تاركا في الأذهان صورته وهو بكامل حضوره ورجاحة عقله. الأب يوسف القزي وضع قلمه جانبا. أغمض عينيه. ونام نوما أبديا.
محبوه كثيرون. من أخوته الرهبان ومن معارف وأصدقاء وقد لقّبوه: الراهب المجنون، الراهب الأحمر، المعترض الدائم، النبيل، المربي، العالم، الأستاذ، السنديانة العتيقة، القلم الحرّ… رهبان كثيرون تتلمذوا على يديه، أصبحوا اليوم كبارا، أخصّ منهم بالذكر قدس الأب العام الأباتي نعمة الله الهاشم الذي درس عليه اللاهوت الإسلامي، وقد استمرّ الأب يوسف بالنسبة إليه وإلى الكثيرين الأستاذ الذي يغدق بأسلوبه، نصائحه الثمينة. اليوم مات الأستاذ. الأب يوسف أدار ظهره ومشى.

عرف الأب يوسف كيف يضع النقاط على حروف المعاني. حتى موته جاء في ختام شهر أيار الذي هو شهر السيدة العذراء. رحل الأب يوسف مع تفتح ورود الياسمين والغاردينيا وهو يردد: يا عدرا. توقف القلم فجأة وجفّت الدواة. سنفتقد حروفه الرشيقة غير النمطية التي لا ممالقة فيها. إنكسر القلم بغيابه. لقد قرأنا كثيرًا عن أبطالٍ في الإيمان، واليوم نفخر بأنّنا عرفنا واحدًا منهم، فليكن ذكره مؤبّدًا.

المصدر : موقع “MTV” اللبناني

شاهد أيضاً

عن الاصطفاف الأميركي- الأوروبي مع إسرائيل

خطار أبودياب شكلت مفاجأة تخطي جدار غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منعطفا في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *