بين حي التّضامن الدّمشقي وبوتشا الأوكرانيّة

كتب عبد الوهاب بدرخان في “النهار العربي”

2 / 5 /2022

جثث في مدينة بوتشا. ( أرشيف)

بين روسيا – بوتين وسورية- الأسد مدرسة واحدة، بمنهاج وحشية موحّد، و”ثقافة” عنف تطوّر نفسها ذاتياً في فنون قتل الضمائر وإبادة الرحمة، ليصبح إعدام الأرواح ضرباً من الترفيه عن المقاتلين. أما التعذيب والتنكيل والاغتصاب والتلاعب بمصائر الأسرى، فليست سوى وسائل للتسلية وتمارين على الإنكار المطلق لإنسانية الضحية. لا يرتقي الجلّاد إلى وظيفته إلا بعد أن يصبح أي شيء باستثناء أن يكون إنساناً، فالحيوانات تجهل الإبادة والقتل للقتل، ولا تحرّكها سوى غرائز البقاء، تقتل لتأكل وتنجو … الإبادة بشرية، أجناس وطوائف تمحو أجناساً وطوائف. الإبادة جنكيزخانية، هتلرية، ستالينية، هوتوية، صربية، وأحدثها بوتينية وأسدية.

تلك كانت عينة من مئات المجازر في عموم سورية، بعض منها في حي التضامن نفسه، إذ ظلّ الأهالي في حيّهم عام 2013 ولم يفهموا رسالة مجزرة داريا المجاورة (2012) حيث سُفك دم مئات غير محدّدة (أقلّها 440 شخصاً)، أو رسائل مجازر متزامنة نُفّذ بعض منها بمشاركة ميليشيات إيرانية كـ”حزب الله” وفصائل عراقية، أو لاحقة أكثرها شهرةً مجزرة القصف بالكيماوي (آب – أغسطس 2013). لم تبقَ زاوية في سوريا تتميّز بتعدّد سكاني، أو خصوصاً بتجانس طائفي معيّن، إلا واستهدفت بالقتل الجماعي، وكأن الخريطة الديموغرافية كانت تحت التمحيص منذ بدايات الحكم الأسدي وموضع تخطيط لإعادة هندستها. ويبرز حالياً حديث التغيير الديموغرافي من خلال اتهام الإيرانيين والأسديين للأتراك (في الشمال والشمال الشرقي) أو اتهامات المعارضة السورية لإيران التي تقيم مستوطنات على النمط الإسرائيلي. وتبقى أخطر الهندسات تلك التي نفّذها نظام الأسد بالمجازر، بقواته أولاً ثم بالتكافل مع حليفه الإيراني، ثم استكملها مع وصيّه الروسي.

أصبحت هناك توأمة فظائع بين الفرع الأمني 227 السوري ولواء المشاة المجوقل 64 الروسي، بين حي التضامن الدمشقي وبلدة بوتشا الأوكرانية المجاورة للعاصمة كييف. عُرفت أسماء مجرمي الحرب الأسديين، ووثّق الأوكرانيون أسماء عشرة عسكريين روس كانت وحشيتهم استثنائية. دخلوا بيوتاً وقتلوا قاطنيها، اغتصبوا نساءً ثم قتلوهن، أطلقوا النار على مسنّين وتركوا جثثهم ممسكة بأكياس الخبز والطعام على قارعة الطريق، جمعوا مئات في مراكز اعتقال ثم أقدموا على تصفيتهم قبل أن ينسحبوا. ولكي يؤكّد الرئيس الروسي أن المجازر حصلت بموجب “أوامر”، فقد وقّع على مرسوم خاص يشيد فيه بـ”بطولة وبسالة وشجاعة” هذا اللواء الذي استعان بعناصر مؤازرة من قوات “فاغنر”. وعندما استحثّت كييف وعواصم غربية عديدة المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في “جرائم الحرب”، بادر الكرملين إلى نفي حصولها واعتبرها ملفّقة، لكن لا يمكن تكذيب الجثث والمقابر الجماعية. أما الأسد، فلم يكترث بالاتهامات الموجّهة إليه وإلى رجالات نظامه، وتولّت موسكو حماية جرائمهم ضد أي إدانة دولية. هذه المرة بات النظام الروسي نفسه موضع اتهام وليس الأسد مَن سيساعده على الإفلات من المحاسبة.

في حال أوكرانيا يُلاحظ الاهتمام بتفعيل التحقيق في جرائم الحرب، وذهب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى وصفها بـ”جرائم إبادة”، أي إلى مساواتها بجرائم النازية، ربما لأنه أراد التذكير والردّ على إدّعاء فلاديمير بوتين بأن “اجتثاث النازية” أحد أهداف غزوه لأوكرانيا، إذ إن ارتكابات الغزاة ضد المدنيين في بوتشا وماريوبول وخيرسون لم تتمايز عن النازيين، بل أكّدت أن الجنود شُحنوا بعقيدة عنصرية حاقدة. أما بالنسبة إلى سورية، فلم تكن هناك أوهام حول سمعة النظام وقواته، ولم تكن تنقصه نوازع الوحشية، لكن “الحرس الثوري” الإيراني رفده بالمزيد، وإذ تجاوزت ضحاياه الـ350 ألفاً، فقد توقّفت المراجع الدولية عن العدّ، كما لو أنها تبقي الحصيلة في حدود “المعقول”، لأن اعترافها بعدد أكبر من دون أي استعداد للمحاسبة يعني العجز الدولي المطلق.

حين شاعت المقارنة عالمياً بين ماريوبول الأوكرانية وحلب السورية، خصوصاً في مناسبة تعيين الجنرال ألكسندر دفورنيكوف قائداً للحملة الروسية في أوكرانيا، استناداً إلى سجله الأسود في سورية، أغفلت المقارنات أن عشرات المدن دُمّرت في البلدين المنكوبين، وأن ملايين السكان هجّروا، ولا يبالي بوتين بمصيرهم لأنهم ليسوا مواطنيه لكنه لا يكتم هدفه، فهو لا يريدهم أن يعودوا إلى مواطنهم بل أشار في بعض تصريحاته إلى ارتياحه لكونهم يشكّلون عبئاً اقتصادياً وعنصر ضغط على البلدان المجاورة لأوكرانيا. وكان الأسد قد جاهر في خطب متلفزة بأن اقتلاع مواطنيه من بيوتهم وأحيائهم كان بهدف تحقيق “انسجام مجتمعي”، وبالتالي فهو أيضاً لا يريدهم أن يعودوا.

لا يُراد لأهوال الحرب في أوكرانيا أن تلف المجازر ضد المدنيين بالنسيان، لذا تسارع وضعها على سكّة التدقيق والتحقيق ليُصار إلى وصم إحدى “دول الفيتو” الخمس بتهمة الإجرام الممنهج. وبالنسبة إلى سوريا، كان الظن أن ويلات الحرب طغت على المجازر وتجاوزتها، لكن ثمة ضميراً خارج إطار الدول ومصالحها لا يزال ينشط، وقد اخترق لتوّه الصمت بإخراج مجزرة حي التضامن إلى العلن، وقبله كانت صور “قيصر” واعترافات “حفار القبور”. وعلى رغم أن هذا الملف المتضخّم يُقابل بالاستهتار من جانب الحلقة الضيّقة لنظام الأسد، إلا أنه منع وسيمنع رفع العقوبات عنه وإعادة تأهيله. ويبقى أن بوتين فاوض وهو يقتل ويدمّر، إلا أنه يعوّل على الإنجازات العسكرية وليس على حل تفاوضي، أما الأسد، فقتل ودمّر وتظاهر بالتفاوض ولا يزال يرفض حلاً تفاوضياً. ولا عزاء لسذاجة المبعوث الأممي غير بيدرسون الذي يعتبر أن اجتماعات اللجنة الدستورية تساعد في “بناء الثقة”، ولا بأس في أن يدرج المجرم أمجد يوسف في عداد مستشاريه لتكون أطروحاته أكثر واقعية.

شاهد أيضاً

عن الاصطفاف الأميركي- الأوروبي مع إسرائيل

خطار أبودياب شكلت مفاجأة تخطي جدار غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منعطفا في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *