لا اتفاق بين السوريين على الهوية الوطنية والعقد الاجتماعي

بهية مارديني

كتبت بهية مارديني* في موقع “تلفزيون سوريا”

ما حاجة السوريين الى عقد اجتماعي؟

لاشك أن فكرة العقد الاجتماعي التي تكرست مع جان جاك روسو وفلاسفة علم الاجتماع في الغرب والتي تطورت لنشوء مفهوم الدولة المدنية قد تأخرت حتى وصلت سورية وباقي الوطن العربي، رغم أن حظ السوريين كان أفضل من سواهم لعدة أسباب منها التنوع في سورية والحراك وحاجة سورية لها، إضافة إلى الاستقلال المبكر، ولكن سبب التأخر هو الاحتلال الفرنسي لسورية الذي جاء بعيد الانفصال عن الدولة العثمانية، الأمر الذي جعل فكرة مفهوم الدولة بحد ذاته غير متبلور لدى النخب السورية، أو وجود أكثر من مفهوم يختلف باختلاف مرجعية النخب وانتماءاتهم ومشاربهم إضافة لاختلاف مذاهبهم وتعليمهم وحتى دياناتهم..

وعند بداية تشكل بؤرة لمفاهيم الدولة المدنية والعقد الاجتماعي قبيل الاستقلال تعرضت هذه الأفكار والمشاريع ونويات الأحزاب لضربات عنيفة وخلق أولويات جديدة مستحدثة تضغط على النخب الثقافية والسياسية السورية، مثل معركة الاستقلال بكل أبعادها ومناحيها ناهيك عن مشاريع التجزئة التي واجهتها سورية عبر تقسيمها إلى 6 دويلات على أساس عرقي وطائفي ومن ثم سلخ الفرنسيون لمدينة طرابلس وأقضيتها الأربعة وضمها لما سمي حينها لبنان الكبير الوليد، وكذلك ضم إقليم إسكندورن لتركيا بعد استفتاء نظمته الأمم المتحدة.. وبعد استقلال سورية ورث السوريون بلداً متشظياً مذرراً بين مشاريع ومفاهيم متناقضة ومتضاربة حول مستقبل سورية الحديثة وشكل الدولة السورية إضافة للتجاذبات السياسية التي كانت تشهدها المنطقة والعالم في ذلك الحين، الأمر الذي وجد السوريون أنفسهم على طرفي نقيض بين حلف بغداد والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي أو بين الدولة القطرية والأمل بتحقيق الدولة العربية الموحدة أو دولة الهلال الخصيب وبلاد الشام. بين الشيوعية أو الليبرالية أو الأصالة والعودة للخلافة. بين اليسار والعلمانية أو الدولة الدينية.. إلى غيرها من قضايا أرخت بظلالها على الحقل المعرفي والحياة السياسية والثقافية اليومية في سورية.

“القدر لم يمهل سورية كثيرا بعد الانفصال عام 1961 إذ إن بذور العسكرتارية نمت بسرعة مخيفة ووصلت بعد عامين إلى السلطة رسميا إثر انقلاب البعث في 8 من آذار عام 1963”

لكن ضيق الوقت وتسارع الأحداث جعل سورية تنتقل إلى مرحلة أخرى دون حسم أي من تلك المنعطفات، حيث بعد عشر سنوات من الاستقلال عن فرنسا جاءت الوحدة مع مصر عام 1958، حيث تعرفت سورية لأول مرة على الدولة الأمنية وبدأت تتشكل دولة العسكرتارية والتي تطورت لتأسيس الدولة الديكتاتورية ذات الطابع الشمولي.. كما أن القدر لم يمهل سورية كثيرا بعد الانفصال عام 1961 إذ إن بذور العسكرتارية نمت بسرعة مخيفة ووصلت بعد عامين إلى السلطة رسميا إثر انقلاب البعث في 8 من آذار عام 1963.. ورغم أن سورية عانت من انقلابات كثيرة، بل أسست لفكرة الانقلاب العسكري في الوطن العربي مع حسني الزعيم سنة 1949 إلا أن شكل الحكومة والأحزاب بل حتى الحياة البرلمانية والمدنية على علاتها في بواكير أيامها كانت بمنأى عن المساس، لكن مع وصول العسكر بواجهة البعث والناصريين أولا ومن ثم تصفية الناصريين وانفراد البعث بالواجهة، لم تكن هناك أية مقدسات فتمت مصادرة الدولة والمجتمع والاقتصاد والثقافة وكل مناحي الحياة لمصلحة الدولة الشمولية البغيضة. فتم تأميم السياسة أسوة بتأميم وسائل الإنتاج والأراضي وتم ضرب الطبقة المتوسطة فتضخمت الطبقة الفقيرة والمعدمة وبدأت تبحث عن آليات للمعاوضة فكان الفساد والإفساد الذي تقونن وتمأسس مع وصول الأسد بانقلابه على حلفائه عام 1970.

وبعد أن تحولت سورية إلى مملكة من الصمت لأربعين عاما، استعمل فيها النظام كل التجارب الديكتاتورية في العالم وشجع الطائفية والقبلية وكل الثقافة القروسطية عملاً بمبدأ فرق تسد وكي يبقى هو المتفوق والحكم بين كل أطياف المجتمع الذي حولهم من أحزاب ونخب إلى شيع وقبائل وحراس مصالح وتم تذرير المجتمع وإغراقه في زوابع الحياة اليومية، ومعاناة شظف العيش، فأصبح الخبز والغاز والمازوت وغيرها من الحاجيات اليومية قضايا جوهرية يعيش الناس من أجلها بل ويناضلوا كي يظفروا بها، حتى إنها كانت تشكل موضوعات سمرهم وسهراتهم..

“لابد لنا من العدالة ورد الحقوق والمظالم وتأسيس دولة القانون قبل أي خطوة أخرى أو بالتوازي معها على أقل حد”


وبينما عانى الشعب السوري عبر سنوات الثورة من اقتسام جلد الدب قبل اصطياده، كذلك عانوا من وصفات وحلول جاهزة أو مستوردة وربما طوباوية لشكل سورية المستقبل، فعاد الزمن بالسوريين إلى المربع الأول على مفترق طرق بين مشاريع شتى ورؤى مختلفة..

وعلى طريقة بعض السوريين في البحث عن جنس الملائكة وإعادة اختراع العجلة أو البيضة أو الدجاجة أيهما أولا فلابد لنا من العدالة ورد الحقوق والمظالم وتأسيس دولة القانون قبل أي خطوة أخرى أو بالتوازي معها على أقل حد.

كان لابد لهذه المقدمة كي نصل إلى المأزق الذي وجد فيه السوريون أنفسهم بعد الثورة المجيدة عام 2011 حيث كان على عاتقهم البناء من الصفر، وكان التحدي هو تحويل مزرعة مهلهلة إلى دولة وإعادة بناء مفهوم دولة المؤسسات والقانون بدلا من المحسوبيات والفساد، وكان لابد من تأسيس مفهوم السلطات الثلاث وفصلها (السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية) بعد أن كانت كلها بيد الأخ الأكبر وفقا لتعبير جورج أوريل في رواية 1984..

وبينما عانى الشعب السوري عبر سنوات الثورة من اقتسام جلد الدب قبل اصطياده، كذلك عانوا من وصفات وحلول جاهزة أو مستوردة وربما طوباوية لشكل سورية المستقبل، فعاد الزمن بالسوريين إلى المربع الأول على مفترق طرق بين مشاريع شتى ورؤى مختلفة..

وعلى طريقة بعض السوريين في البحث عن جنس الملائكة وإعادة اختراع العجلة أو البيضة أو الدجاجة أيهما أولا فلابد لنا من العدالة ورد الحقوق والمظالم وتأسيس دولة القانون قبل أي خطوة أخرى أو بالتوازي معها على أقل حد.

*كاتبه وصحفية سورية

شاهد أيضاً

حروب الصورة والوردة الإسرائيلية

لا حدود لمظاهر الانحياز الفاضح للرواية الإسرائيلية ولجيش الاحتلال الإسرائيلي لدى كبريات وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمسموعة والمرئية على حدّ سواء؛ خاصة تلك التي تزعم عراقة في التأسيس والتقاليد والمهنية العالية (مثل الـBBC البريطانية)، والكفاءة التكنولوجية الفائقة في مختلف جوانب التغطية المباشرة أو عن بُعد (مثل الـCNN الأمريكية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *