عض أصابع في الشمال السوري.. ماذا بعد ذلك؟

د. باسل معرواي

كتب . باسل معراوي في “نينار برس”

تمتلك أنقرة أوراقاً قوية في الملف السوري، بحكم كونها دولة إقليمية كبرى وصاعدة تحتاجها كل الدول المتدخلة بالشأن السوري أكان ذلك داخل سورية أو في خارجها. لذلك لا يتوقع أحد أن تتحول الضغوط والرسائل (الدموية أحياناً) إلى قطيعة معها أو مضايقتها أو إحراجها ولن أصل إلى قول فتح حرب معها لأن ذلك لا يخطر على بال أحد.

من أوراق تركيا المهمة في الملف السوري، حدود تمتد إلى 930 كم، وإدارة مناطق الشمال الغربي مدنياً وأمنياً التي تضم ما يقارب خمسة ملايين سوري، جزء كبير منهم فر من آلة الإجرام الروسية – الإيرانية – الأسدية، وبقيت هذه البقعة التي لا تشكل أكثر من 12% من مساحة الأرض السورية كملاذ آمن يؤمن الحدود الدنيا للاستقرار والعيش الكريم وتوجد خطط لإعادة أو عودة المهجرين خارجياً إليه. كما تملك تركيا ورقة الـ 4 ملايين لاجئ سوري فيها التي تتشارك مع المانحين الدوليين بعضاً من الخدمات التي تقدم لهم.

كما تملك تركيا وضعاً استخبارياً وأمنياً وعسكرياً في الشمال الغربي وجزء من منطقة الجزيرة، حيث يوجد الآن في إدلب لوحدها ما يقرب من 25 ألفاً من الجنود بتشكيل عسكري مقاتل.

تملك تركيا أيضاً ورقة “الجيش الوطني السوري” بتسمياته المختلفة، المتحالف معها والذي تشارك معها سابقاً في العمليات العسكرية الأربع التي تمت.

وتملك أيضاً ورقة المعارضة السياسية “الشرعية” ، التي يعترف بها العالم كونها أحد ممثلي الشعب السوري والممثل الشرعي للثورة السورية (الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض) كما أن لتركيا تأثيراً كبير في تشكيل وعمل اللجنة الدستورية (تلك اللجنة التي ينظر لها الكثيرون على أنها جزء من عوامل بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة).

ولا يمكن تجاهل تركيا في أي حل سياسي أو جهد دولي لإعادة الإعمار أو العودة الطوعية للاجئين السوريين.

لذلك، وكما يرى بعضهم، فإن القوى العظمى (روسيا والولايات المتحدة) عندما تتفق فإن ذلك سيكون على حساب القوى الإقليمية، وهذا ما يبدو انه حاصل في سورية مؤخرا بعد جولتي حوار استراتيجي امريكية روسية جرت الاخيرة في هلسنكي اواسط ايلول الماضي.

هذا التفاهم هو ما يقلق الجانب التركي (الذي يعتقد أن جانباً مهما منه سيكون على حسابه) وقد ظهر مؤخراً بأشكال متعددة عبر تصريحات الرئيس التركي النارية ضد الرئيس الأميركي بالذات أو السياسة الأميركية عموماً في الملف السوري وقوله بالضبط إن الولايات المتحدة (الحليف المفترض) هي من تدعم الإرهاب والذي يمس جوهر الأمن القومي التركي.

وأتبعه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بمؤتمره الصحفي الأخير عندما حمل روسيا والولايات المتحدة مسؤولية مقتل الشرطيين التركيين في جوار مارع، بسبب دعم ميليشيات “قسد” الإرهابية.

سورية الآن في مرحلة ما بعد العسكرة، بعد تدخل جيوش دول عظمى ودول إقليمية كبرى وتحقيق كل طرف ما يراه مقبولاً له، يرغب الجميع بحل سياسي يحفظ تلك المصالح.

الجانب التركي لن يتنازل عن أي متر مربع من الأرض التي تقع تحت الحماية التركية والفصائل الثورية السورية، ويترك الوضع كما هو عليه ويؤجل لحين الوصول للحل السياسي الشامل للمسألة السورية والذي بالتأكيد سيأخذ بعين الاعتبار مراعاة الأمن القومي التركي.

يمكنني القول هنا أن لا تنازل عن جنوب طريق M4 ومبادلة ذلك بأماكن أخرى، إذ ترى القيادة التركية أن الاحتفاظ بجبل الزاوية هو من صميم الأمن القومي التركي، وأن تركيا غير مستعدة لقبول لاجئين سوريين جدد في أراضيها. ويتوافق ذلك مع رغبة أميركية وأوروبية وأممية بعدم توسيع نفوذ النظام عبر روسيا في إدلب خصوصاً والشمال الغربي عموماً.

ويرى مراقبون أن تجميد الجانب التركي لأي بحث أو تفاهم في ملف إدلب والطلب من الروس تنفيذ تعهداتهم في اتفاق سوتشي 2019 والذي عقد بشهر تشرين الأول عقب تجميد عمليات “نبع السلام” ، بسحب ميليشيات قنديل الإرهابية من منطقتي تل رفعت ومنبج وعبن العرب وعين عيسى ولعمق 30 كم عن الحدود التركية.

هنا نقطة خلاف روسية تركية جوهرية، إذ إن موسكو تعتبر أن أنقرة لم تف بتعهداتها باتفاق موسكو 2020 في حين ترى أنقرة أن موسكو لم تف بالتزاماتها هي الأخرى باتفاقي سوتشي 2018 (بخصوص المناطق المنزوعة السلاح وإبعاد النظام لما بعد النقاط التركية السابقة في مورك وغيرها) واتفاق سوتشي الذي يتعلق بإبعاد تنظيم “قسد” الإرهابي.

ذروة التصعيد الذي انتقل من إدلب إلى مناطق “درع الفرات” بقتل الشرطيين التركيين والغارة الروسية بجوار نقطة تركية بفي حيط مارع، وتزويد الروس لميليشيا “قسد” بقذائف روسية خارقة للدروع (كورنيت)، رد عليه الأتراك بإسقاط مسيرة استطلاع روسية بنظام الدفاع الجوي كورال الذي يعمل على التشويش الإلكتروني. حيث لم يشاهد على المسيرة المسقطة أي أثر لمضادات أرضية وكان الأذى بها هو نتيجة الاصطدام بالأرض.

بالنسبة لروسيا فإنها تعرف أن نظام الأسد لا ينقاد لها إلا بالعصا والجزرة. فهي غير معنية بتوسيع نطاق سيطرته العسكرية بل بإبقائه تحت التهديد وهي مضطرة في سورية للتعاون مع الأتراك والأميركان والأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي والعرب، لتأمين حل سياسي وإعادة إعمار يكفل لها مصالحها في سورية كونها-أي روسيا- غير قادرة على حمل النظام سياسياً واقتصادياً، ولكنها تناور على قراءتها الخاصة للقرار الدولي 2254 الذي ترى فيه أن كل الخطوات تجري ضمن مؤسسات (الدولة السورية) وتحت إشراف رأس النظام في سورية. وهو أمر لا يوافقها عليه أحد.

وما الغارات الروسية والضربات في مختلف أماكن الشمال الغربي التي تنفذها روسيا بنفسها أو عبر قوات النظام أو قوات “قسد” إلا لإفشال أي مشروع مدني ترعاه تركيا يحقق مقداراً معقولاً من العيش الكريم في ظل انهيار اقتصادي واجتماعي شامل بمناطق سيطرة النظام وهجرة أو هروب الشباب من مناطق سيطرته يمكن أن يشكل ذلك إضعافا له، وإذا طال أمد الصراع فمن الممكن أن يكون بديلاً ونموذجاً يودي بالنظام نفسه. لذلك تلجأ روسيا للضربات العسكرية والسيارات المفخخة وإغراق المنطقة بالمخدرات.. إلخ.

ما يهم الأميركان في الملف السوري الآن، وبعد انسحابهم من أفغانستان والعراق – ولابد أنهم سينسحبون من سورية آجلاً خلال مدة حدها الأقصى سنة وهي نهاية فترة تمديد حالة الطوارىء الأميركية في سورية والتي تنتهي في 14 اكتوبر 2022 وربما قبل ذلك – عدم استفادة الميليشيا الإيرانية من ذلك الفراغ، وعدم حدوث عمليات انتقامية أو صراعات تكون على حساب حلفائها من تنظيم PKK الإرهابي. وعدم معارضة تركيا لإدخال قوات “قسد” بالعملية السياسية المقبلة.

في هذه النقطة يتفق الأتراك والروس ولا يطلبون من الولايات المتحدة انسحاباً متسرعاً كما حدث في أفغانستان وترك مئات آلاف الأطنان من الأسلحة الأميركية بأيدي تنظيم إرهابي عابر للحدود. بل انسحاباً متدرجاً مجدولاً يتم به إملاء الفراغ الأمني الذي سينشأ بالتوافق بين الأتراك والروس.

إن ترك كل هذا الكم الهائل من السلاح الأميركي دون سحبه، يؤدي لأخطار لا تحمد عقباها، سواء للأمن القومي التركي وسكان منطقة الجزيرة الفراتية عموماً أو بالنسبة لقوات النظام التي تدعمها روسيا.

لا أظن أن إيران وميليشياتها معنية الآن بملفات الشمال الشرقي والغربي. إذ إنها معنية بمعبر البوكمال وتضميد جراحها من ضربات المسيرات الإسرائيلية ومتابعة الملفات الأهم لها سواء في حدودها الشمالية مع أذربيجان أو خسارة أحزاب الحشد الشعبي للانتخابات العراقية أو بداية تمرد عسكري مسلح على هيمنة حزب الله ينذر بحرب أهلية لبنانية.

ماهي حدود الرد التركي العسكري المتوقع؟

استناداً للعمليات التركية الأربع في سورية والتي لا يمكن أن تتم إلا بغطاء روسي أو أميركي، فإنه لا يمكن في هذه الظروف التي تعاني فيها تركيا من توتر كبير في العلاقة بين القوتين العظميتين في سورية ان تقوم بمفردها ودون غطاء من أحدهما بشن عملية عسكرية برية. بمعنى اجتياح لمنطقة بالمفهوم الكلاسيكي. بل وكما صرح الرئيس أردوغان يوم الاثنين الماضي بعد اجتماعه بالحكومة التركية. ان قتل الشرطيين التركيين في مارع هو القشة التي قصمت ظهر البعير، وأن الرد سيكون إما عبر القوات التركية أو القوى الفاعلة على الأرض في إشارة منه إلى قوات “الجيش الوطني السوري” المتحالف مع أنقرة.

لذا، يرى الكثيرون أن الرد التركي سيتركز بشكله الرئيسي على ضربات جوية ساحقة عبر المسيرات التركية لمراكز تموضع وخطوط إمداد ومخازن أسلحة لقوات “قسد” الإرهابية مع الاستمرار بعملية استهداف قادتها شرق وغرب الفرات.

ويمكن أن تقوم قوات نخبوية من “الجيش الوطني السوري” مدعومة لوجستياً واستخبارياً من القوات التركية بعمليات إغارة أو ضرب نقاط داخل الأراضي التي تحتلها قسد والعودة لأماكن انطلاقها. والعودة مجدداً لتفاهمات روسية تركية وتركية أميركية يتوقع أن تكون بدايتها في روما على هامش قمة العشرين بلقاء يجمع الرئيسين التركي والأميركي لبحث طلب صفقة الأسلحة التركية من أميركا والتي تتجاوز 6 مليار دولار والعودة بالعلاقات لوضعها السابق الذي يؤمن تنسيقاً بحده الأدنى بين البلدين بمختلف الملفات.

يميل الكثيرون للاعتقاد أن لا تغيير في مواقع السيطرة الحالية للقوات إلا في ظل تفاهم دولي يفضي للشروع بحل سياسي. يقال إن اتفاقاً بالأحرف الأولى عليه حصل بين الروس والأميركان.

*كاتب سوري

ملاحظة : المقالة تعبر عن رأي كاتبها، وليس لها بالضرورة أن تعبر عن رأي والسياسة التحريرية لموقع “سوريتنا”

شاهد أيضاً

ما مصلحة السعودية من التطبيع مع إسرائيل؟

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *