خارطة طريق أوليّة لمواجهة خطاب التطرّف!







كتب أحمد الرمح *


أخطر الولادات السلبية في الربيع العربي هي ولادة خطاب متطرف، دعت إليه جماعات متطرفة، استغلّت حالة الفوضى في مجتمعات الربيع العربي، لتبدأ تأسيس بؤر متطرفة، وصلت في اتساع دائرتها إلى أنْ أنشأت تنظيمات وتشكيلات إرهابية، ساهمت في فشل هذا الربيع بدرجة كبيرة، وتحويله إلى شتاء قارس.

وربما نكون -السوريين- أكثر من عانى تلك الولادات الناشزة الغريبة على المجتمع السوري، حيث دفع الشارع الثوري فاتورة باهظة، بسبب خطاب متطرف، مذهبيًا وطائفيًا، تجاه مكونات سورية أخرى، وساهم ذلك في تعقيد الحالة السورية، ودفع خلايا متطرفة من دول شتى إلى البحث عن مكان لها، في حالة الفوضى الثورية، لتعشش داخل جغرافيتها، فتنشئ تنظيماتها، وتبثّ سموم التطرف والإرهاب، باسم الثورة والثأر والانتقام، من خلال خطاب ديني، والدينُ بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

تفكيك التطرف قبل مواجهته!

إن مواجهة التطرف وأفكاره تعني مواجهة جيلٍ نشأ في ظل الانفلات الثوري الذي تقف وراءه أسباب عديدة، منها الأيديولوجيات الدينية المتطرفة، والسلوك الوحشي من النظام الدكتاتوري ضد الشارع الثوري، الذي أعطى مشروعية مشبوهة لخطاب التطرّف وجماعاته، كي تنمو بغفلة منا! فتسللت تنظيمات متطرفة إلى الحقل الثوري، على أمل تحقيق مشروعها الديني/ الأممي، بذريعة الانتقام لمظلومية الشارع الثوري الذي لم يَرْقُب فيه النظام السفاح إلًّا ولا ذمة. وهذا لا يعني إغفال عامل الجهل وقلة الوعي، عند أتباع وأنصار هذه التجمعات المتطرفة التي استغلت ذلك لتضمّ إليها جيلًا من الناشئة، ترعرع زمن الثورة بعيدًا عن أي توجيه عقلاني وإنساني مدروس.

هذه الأسباب وغيرها ساهمت في نمو دائرة التطرف، واستطاع دعاة التطرف أن يوهموا هذا الجيل الناشئ في الثورة بوعود طوباوية، مستخدمين نصوصًا تأوّل مآلات الشهادة في سبيل قضية وطنية وإنسانية، إلى قضية دينية، ينال من يموت في سبيلها جنّة مملوءة بحور العين، لتعويضه عما فاته في الحياة الدنيا، من خلال قصص خرافية تُرغّب في ثقافة الموت وسلوك التطرف.

ما العمل؟

إنّ مواجهة خطاب التطرف تحتاج إلى إمكانات علمية وفكرية كبيرة وهائلة، لا تمتلكها إلا دول كبيرة، بالتعاون مع مجتمع فيه نخبة عاقلة ومؤنسة وغير مؤدلجة. لكن هذا لا يعفينا، ونحن نعمل على تأسيس لَبِناتٍ سوريةٍ أولية، من أن نقوم بخطوات عاجلة لتفكيك خطاب التطرّف، ومنع تمدد ثقافته، فتفكيكه ومنع تمدده شيء، ومواجهته شيء آخر. وتحتاج عملية تفكيكه إلى إبداع آليات ووسائل، تعمل على حصر الأسباب التي تسمح له بالولادة، من خلال تضييق مساحة دائرة فاعليتها، وعدم السماح للمجموعات الراديكالية بنشر أفكارها، بمعنى آخر: ضخ خطاب عقلاني وإنساني يقاوم انتشار أفكار التطرّف والعنف سوريًا، ولا يسمح للتطرف باكتساب أنصار جدد، وبذلك لا يغدو مؤثرًا في ولادات بؤر جديدة.

هذا الأمر يستدعي تكاتف الكفاءات السورية الخبيرة في الإسلام السياسي، والاستفادة من خبراء علم الاجتماع السلوكي القادرين على تشريح الحالة التطرفية علميًا، مع وجود طرف ثالث، من قادة الرأي العام، حيث يُنتج الفرقاء الثلاثة أفكارهم ومشروعاتهم الأولية، من خلال وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، وحضورهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ومنح مساحة لمكافحة خطاب التطرف، فليس معقولًا أن يهتمّ الجميع بالوضع السياسي وتحليلاته، وأن يُهمل هذا الحيّز الاستراتيجي المهم في بناء سورية المستقبل، فمواقع التواصل الاجتماعي باتت الملاذ الأخير للتطرف وأفكاره وأنصاره!

الأمر الثاني تحتاج مواجهة التطرف إلى حلول قانونية أمنية، وتلك مسؤولية السلطات، لكنّ تفكيك خطابه مسؤولية منظمات المجتمع المدني الكثيرة جدًا في الحالة السورية، بحيث تكون مسألة تفكيكه على أوليات برامجها، إضافة إلى مسؤولياتها الأساسية، فهذه المنظمات من السهل وصولها إلى أصغر وأهمّ خلايا المجتمع، وهي الأسرة، بواسطة متخصصين مرافقين لجولاتها لتحقيق برنامجها الأم.ومن خلال تلك المؤسسات، يأتي دور المنظمات النسوية التي لها وسائلها، وباتت تملك خبرة جيدة في رفع وعي المرأة السورية.

إن انشغال التجمعات النسوية بتمكين المرأة في اللجنة الدستورية والمنصّات السياسية وحقوق المرأة عملٌ مهمٌّ، ولكنه لا يعفيها من أن تكون مهمّة تفكيك التطرف من أساسيات برامجها، لأنها تتعامل مع الأم نواة الأسرة، فتأسيس الوعي بمخاطر التطرف شاغلٌ مهمٌ للأمّ بالخوف على أولادها، وهي أول مضاد حقيقي لمكافحة انتشار الفكر المتطرف، لأنها ترى ما لا يستطيع الخبراء رؤيته، بمراقبة سلوك أولادها، لقربها منهم، ومن خلال مساعدة التجمعات النسوية تستطيع كبح جماح انحياز أبنائها إلى التطرف.

وهذا يقودنا إلى الاهتمام بالناشئة، فقد أنتجت الحربُ جيلًا تربّى على ثقافة عنفية، وغالبية روافد التنظيمات المتطرفة وأنصارها من الشباب! وإنّ بثّ خطاب الحرب والانتقام والثأر، في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا أثناء وقوع مجازر يقوم بها النظام الفاشي، ومن خلال وسائل إعلام ثورية، من دون الانتباه إلى خطورة هذا الخطاب، يشحن الناشئة بانفعال عاطفي، ويدفعها إلى البحث عن سبل للتعبير عن غضبها، لتفريغ طاقتها السلبية؛ فتجد التنظيماتِ المتطرفة حاضنًا لها! فتجعلهم من أنصارها أولًا، ثم مُجندين فيها تاليًا، ليغدوا عبئًا على الثورة، ظنًا منهم أنهم يدعمونها.

ثم نصل إلى منبر مهمّ في هذه القضية، له دوره في تفكيك خطاب التطرف، حيث انتشرت في الجانب الثوري غرف “الواتساب”، واللقاءات والمحاضرات على برامج “الزوم” و”كلوب هاوس” وما شابهها، وهي تضم أعدادًا هائلة من السياسيين والمثقفين والكتّاب، ومن سلبيات هذه الغرف أنها تتناول في لقاءاتها الخبر السياسي لتحليله، وغالبًا ما تنتهي الأفكار المتخالفة بنزاعات وانشقاقات واتهامات، ولذلك فقدت معظم هذه المنصات الافتراضية أهميتها! وتناست دورها في مخاطبة الناشئة، والاهتمام بهم، وضمّهم إلى تلك الغرف لمنحهم جرعات من الوعي، حتى لا تتمكن التنظيمات المتطرفة من اصطيادهم.

إن غالبية هذه المنصات الافتراضية لا تهتمّ بالشباب ولا بمشكلاتهم، ولا تعمل على احتوائهم ومنحهم الخبرات، حتى لا يقعوا فريسة للتطرف وثقافته، وبذلك يسهل على الغرف الظلامية الأخرى احتواؤهم، حيث ترحّب بهم، فيكونوا بدايةً أنصارًا لأفكارها، ثم مجنّدين فيها، من خلال ترغيبهم، دينيًا أو ماليًا، ومنحهم شعورًا بأنه باتوا “مجاهدين في سبيل الله”.

ما سبق كله يقودنا إلى زاوية مهمة، تعمل على دعم التطرف دون قصد منها، وربما لقلّة خبرتها، وتتمثل بالخطاب الإعلامي الثوري القائم على شحن الناشئة سلبيًا بأخبار، وتحويل الخبر إلى قصة قصيرة جدًا، تشحنهم بغليان عاطفي، فتجعل من الانتقام والثأر الرد الأمثل على مجازر النظام الفاشي وجرائمه، ولا شك في أنّ التعاطف مع الضحايا واجبٌ إنساني وأخلاقي ووطني، ولكن طريقة تقديم الخبر تدفع الناشئة باتجاه الانتماء إلى ثقافة التطرف وتنظيماته، بشكل غير مقصود، وربما عدم وجود الخبراء النفسيين والإدارة المحترفة سببٌ في ذلك.

أخيرًا

لا شك في أن التيار التنويري يتحمل الكفل الأكبر في هذه القضية، ولكن من غير المنطقي بقاؤه وحيدًا على هذه الجبهة الساخنة، إذ لا يستطيع وحده القيام بهذه المهمة الثقيلة، ولا سيما مع استمرار حالات الظلم والقهر التي يتعرض لها مجتمعنا السوري، سواء في مناطق سيطرة النظام بسبب تردي الوضع المعاشي، أو في مناطق المعارضة وما تتعرض له من جرائم إنسانية يقوم بها النظام الفاشي بطيرانه وقصفه المدفعي وهجماته على المدنيين الأبرياء وارتكاب المجازر بحقهم، لذلك يحتاج الأمر إلى تركيز الأقلام الواعية والوطنية من خارج دائرة التنوير، لتترك خلافاتها السياسية، وتمنح مساحة من كتاباتها ولقاءاتها، لتفكيك خطاب التطرف، مبتعدة عن اللغة المقعرة والمصطلحات التثاقفية، فتكتب بأسلوب سهل ممتنع، كي تصل أفكارهم ورسائلهم إلى هذا الشباب البسيط، فيتأثروا به.

إن محاصرة رقعة خطاب التطرّف، وتوهين ثقافته، وتقليل أنصاره، تجعل من خطوة بناء سورية الجديدة مهمة أسهل، حتى ندخل في عملية بنائها من دون خوف من خلايا التطرف النائمة، أنْ تنشط ضد المشروعات الإنسانية والوطنية بأقلّ نسبة من الألغام المتطرفة، التي ستبقى كامنة حتى حين، في ثنايا مجتمعنا، لتعمل على عرقلة المشروع الوطني في أثناء الانتقال السياسي، بسلوكها المتطرف ومنهجها الإرهابي، فتعيدنا إلى مربع الفوضى.

* – باحث وكاتب سوري، مهتم بشؤون الإسلام السياسي، شارك في نشاط لجان إحياء المجتمع المدني في سورية، وفي تأسيس ملتقى الحوار الوطني السوري وغيرهما، وله العديد من الكتب المطبوعة.


المصدر : مركز حرمون للدراسات المعاصرة 

شاهد أيضاً

ما مصلحة السعودية من التطبيع مع إسرائيل؟

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *