وثيقة مبادئ فوق الدستورية

 

 




كتب المحامي إبراهيم ملكي لـ “سوريتنا” 




يمثل الدستور الشكل الاجرائي للتعاقد بين أفراد المجتمع كافة، ويعد المرجع الفصل للسلطات والقوانين من جهة والحريات والحقوق من جهة أخرى، و من هنا تأتي أهمية دوره ليس لجهة إعداده وصياغته فحسب، بل صيانة وتحصينه من خلال المحكمة الدستورية كمؤسسة والشعب كمالك للسيادة، إذ أثبتت تجربتي مصر وتونس أن النص الدستوري لايكفي وأنه بحاجه دائمة لحماية وصيانة، ومن دون ذلك فمن الممكن الانقلاب عليه كما حدث في مصر عبر الانقلاب على الدستور وإرادة الشعب من خارج السلطات الثلاث ( التشريعية والقضائية والتنفيذية)، وتم كذلك في تونس ، ولكن في هذه المرة من داخل السلطة التنفيذية ومن مؤسسة الرئاسه تحديدًا.

وفي معرض نقده للأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد المطلق رأى الفيلسوف سبينوزا أن النظام الديمقراطي في الدولة الحديثة يحقق درجة عالية من الديمقراطية ويمنع الاستبداد، وانتهى من حيث النتيجة إلى القول : إن النظام الديمقراطي هو أكثر النظم اتفاقاً مع العقل والمنطق والطبيعة الإنسانية.

لذا فإن شكل الدولة الذي ينبغي أن يتشكل في سورية هو الدولة الوطنية الديمقراطية المستقبلية، دولة حيادية غير خاضعة لحزب أو فئة اجتماعية معينة أو إثنية أو دينية، دولة لمواطنيها كافة، وأي نقص في المفهوم الحيادي للدولة يسبب شرخاً بين الدولة والمجتمع، ومقدمة لاحتكار النظام السياسي وتصبح سيادة منقوصة في حال عدم تمتع  المواطنين كافة بالحريات الكاملة (حرية الراي والتعبير _حرية تشكيل أحزاب _حقوق ثقافية واقتصادية واجتماعية… إلخ.

إن الإطار الصحيح لقيام هذه البنية هو المواطنة (كعقد اجتماعي) ينظم علاقة الأفراد والجماعات ضمن إطار الدولة مع ضمان الدولة لهذه المجموعات حقوقها كاملة وتشاركها في صنع القرار والرقابة على أعمال السلطات وفقا لمبدأ أن الدولة الحديثة تعتبر المعارضة جزأ من السلطة. 

سورية بلد حكمه ويحكمه الاستبداد منذ عقود عبر منظومة أمنية تحكمت بالسلطات وألغت الدستور وحكمت البلاد بعقلية العصابات والمافيا من دون رقيب أو حسيب، حيث تمكنت السلطة القمعية في ظل الأسدين الأب والأبن ابتلاع الدولة والحقوق والحريات برفع شعارا ت براقة (قضية فلسطين _الوحدة العربية تحرير الجولان)، وغيب المواطن باسم هذه الشعارات عن صنع مستقبله وتنمية بلاده وتلاشت حقوقه وحريته وكرامته بدون تحقيق أي شعار من تلك الأهداف.

 وعانت التجربة الدستورية السورية الكثير من حكم العسكر ومن تغول أقلية فئوية أمنية حكمت البلاد بشكل منفرد ووحشي لا علاقة لها بالعقل المدني أو بالقوانين أو بالعمل المؤسساتي محتكرة كافة السلطات ومعتمدة على البطش والقمع في تعديلها للدستور عدة مرات وفق ما تقتضي حاجتها لحكم البلاد وتحويل الدستور السوري كقطعة قماش يفصلها النظام على مقاسه حتى يتمكن من حكم البلاد من خلال أدوات تسلطية قمعية وأجهزة امنية محمية بالقانون التي قامت بمصادرة الحقوق والحريات العامة وابسط الحقوق الإنسانية ودمرت البلاد على كافة الصعد.

وقد باتت حاجة السوريين ماسة إلى عقد اجتماعي جديد ولقواعد استثنائية محصنة (مبادئ فوق الدستورية) وقطع الطريق أمام الاستبداد، باعتبارها تمس قضايا كبرى في الدولة المستقبلية كحقوق الانسان والمواطنة والمساواة، ومتعلقة بمصالح وحقوق ومستقبل كل فئات الشعب السوري على أساس مبدأ التوافق الوطني من جهة، وقيم توافقية عليا يبنى عليها الدستور مصانة ولها طابع الديمومة ولا يجوز المساس بها تعديلا أو تحت أي ذريعة الغائية من جهة أخرى .

هذه المبادئ تضعها هيئة تأسيسية منبثقة عن هيئة حكم انتقالي، تمثل كافة مكونات المجتمع السوري عبر صيغ يتوافق عليها الجميع، وتعبر عن رأي الأغلبية دون إنقاص وانتقاص من حقوق الأقلية بالمعنى السياسي والثقافي.

وانطلاقاً مما سبق تأتي أهمية صناعة دستور وانجاز مبادئ فوق دستورية في سورية التي هي الأساس في بناء الدولة الوطنية القادمة وتكون محصنة لمنع تغول السلطات التي تبالغ في استخدامه بحق الافراد والمجتمع، هذا الدستور يعمل على قوننة عمل السلطات ودورها عبر فصلها عن بعضها البعض ومراقبة المجتمع لتلك السلطات عبر المحكمة الدستورية العليا، ولمدى دستورية عملها لقطع الطريق على الاستبداد مستقبلاً وعدم عودته   وذلك عبر سلطة قضائية مستقلة ومحاكم دستورية عليا ذات حصانة بحيث أي مخالفة لدورها أو وظيفتها يعني الخروج عن العقد الاجتماعي المتوافق عليه .

إن اغلب الدول التي مرت بتجارب وأزمات وحروب وصراعات وثورات داخلية لجأت أغلبها إلى وضع مبادئ وطنية حاكمة خاصة سميت قواعد دستورية استثنائية تمس قضايا كبرى أو مصيرية في الدولة متعلقة بحقوق ومصالح الافراد ومستقبل كل فئات الشعب دون استثناء، الأهم فيها هي مانعة في تشكل الاستبداد، ويجب أن تتلاءم مع المبادئ الديمقراطية وقيم حقوق الانسان العالمية وتسعى لاستقرار الدولة بعد كل هذه المعاناة والآلام

من هنا تأتي أهمية المبادئ الحاكمة للدستور المثقلة بمجموعة من الثوابت لكي تقطع الطريق على أي استبداد جديد من خلال التشديد على عدم مركزة السلطة وكذلك حصانة الحقوق والحريات – فصل السلطات – صلاحيات الرئاسة – دور الرقابة والمحكمة الدستورية العليا في الفصل بالاعتراضات على الفقرات المتعلقة بمنع تهميش المجتمع أو أي مكون من مكوناته العرقية أو الدينية أو الاثنية. بحيث يصعب على أية سلطة أو أكثرية تعديل هذه البنود بوجود سلطة قضائية مستقلة ماليا واداريا وتكون تابعة لمجلس القضاء الأعلى.

ومما تقدم نرى: أن المبادئ فوق الدستورية هي حاجة لسورية القادمة والتي تعرف: بأنها مجموعة من القواعد الدستورية الثابته غير قابلة للتغيير وسامية لأنها فوق القواعد الدستورية القانونية الأخرى ولا يجوز تعديلها أو الغاؤها وهي تعتبر بمثابة الموروث الذي ينتقل من جيل الى أخر تلزم جميع السلطات المتعاقبة على السلطة احترامها وعدم المساس بها (محصنة) ولدينا أمثلة ناجحة في الماضي والحاضر.

كما هو وراد في دساتير الكثير من الدول (منها جنوب افريقيا عام 1996 وتونس 2014) وأيضا الدستور الفرنسي لعام 1958 ومازالت المادة 89 سارية والتي تنص “لا يجوز اجراء أي تعديل على الطابع الجمهوري للحكومة”

وأيضاً من المبادئ فوق الدستورية المتعلقة بفيدرالية المانيا فقرة 3 من المادة 79 والتي تنص “لا تقبل أي تعديلات على القانون الذي يؤثر على تقسيم الاتحاد الى ولايات”.

ومنعاً لتغول أي سلطة مستقبلية كآل الأسد الذين تعاملوا مع الوطن كإقطاعية للأسرة  أو مزرعة خاصة يجب علينا تحصين البلاد بمبادئ فوق دستورية سامية لها صفة الديمومة.

 مثال ورأي: تحدد مدة الرئاسة بـ 4 سنوات بدلاً من سبع سنوات غير قابلة للتمديد إلا لمرة واحدة (هذه المادة غير قابلة للتغيير أو التعديل) وكذلك تقييد صلاحيات الرئيس تجسيدا لمبدأ فصل السلطات وإخضاع رئيس الجمهورية للمساءلة القضائية والمحاسبة كما هو وارد في الدساتير الحديثة وكذلك يجب ان يبنى الدستور على أساس وظيفي لجهة رئيس الدولة   كمنصب فخري فقط. وتعتبر المبادئ فوق الدستورية احدى تلك الوسائل التي تحول دون تعديل الأنظمة لها والتفرد  بالسلطة خاصة بعد الانتهاء من الازمة لكونها مبادئ متعلقة بالدرجة الأولى بالحقوق والحريات والمواطنة والمساواة وحقوق الانسان وغيرها من الحقوق الواردة في الشرعية الدولية لحقوق الانسان (مبادئ حقوق الانسان لعام 1948 والمواثيق الدولية الأخرى ك العهد الدولي لحقوق الانسان السياسية والثقافية وغيرها.

إن بناء وصياغة مبادئ فوق دستورية سواء بنيت كجزء من الدستور أو بوثيقة مستقلة تكون الضامن الحقيقي لعدم انتاج نظام سياسي استبدادي يصادر البلاد وأهلها ويمسك بكافة السلطات بيده وينقلهم الى عالم الديكتاتورية، كما أنه ضمانة لمشاركة جميع المواطنين في السلطة وإدارة البلاد وفي بناء دولتهم الدولة الديمقراطية التي تقوم على أساس مبدأ المواطنة والعدالة والمساواة ووضع الأمور في نصابها الصحيح بحيث تكون السلطات مستقلة وممثلة للشعب حقيقة مهمتها بناء وتنمية واعمار والمحافظة على وحدة البلاد.

تؤكد الوقائع ان مشروع وثيقة مبادئ فوق دستورية يتوافق عليها اغلبية الشعب السوري (مع تقييد صارم للقوانين الاستثنائية كقانون الطوارئ) باعتبارها الركن الأساسي للانطلاق نحو بناء الدولة الوطنية الحديثة دولة قانون ومؤسسات ويجب ان تتضمن:

1- مجموعة من المبادئ العامة كشكل الدولة باعتبار سورية دولة ديمقراطية يكون الشعب فيها صاحب السيادة نظام برلماني عبر حياة يكفل الدستور ممارسة الحياة السياسية الطبيعية عبر مؤسسات مجتمع مدني ونقابات مستقلة وأحزاب سياسية واحترام الاختلاف والتنوع والتعدد في إطار الوحدة الوطنية.

2- اعتبار الحريات الشخصية والعامة محترمة (خط احمر لا يجوز المساس بها) وتكفلها الدولة وأيضا الالتزام التام بمبادئ حقوق الانسان والشرعة الدولية بمواثيقها واعتبارها جزءا لا يتجزأ من الدستور السوري القادم.

أ – الإعلان العالمي لمبادئ حقوق الانسان.

ب_ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

ج_ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية.

3- مبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واستقلاليتها.

4- تحصين النظام السياسي من أي شكل من اشكال عودة الاستبداد بكل اشكاله وتقييد صلاحيات الرئيس تجسيدا لمبدأ فصل السلطات.

5- سلطة قضائية محصنة ضد تدخل السلطات الأخرى ولا يمكن ان نتكلم عن حقوق وحريات وفصل سلطات بدون سلطة قضائية مستقلة دستوريا وماليا واداريا ومهنيا.

6- علينا تعزيز دور المحكمة الدستورية العليا* واستقلاليتها باعتبارها مفتاح لتطبيق القانون والعدالة كجهة مراقبة للقوانين والمراسيم التشريعية التي تصدرها السلطة التشريعية ولمدى توافق هذه التشريعات مع الدستور وفض الاشتباكات بين الجهات القضائية والتنفيذية والتشريعية ومدى تطابق هذه المراسيم مع الشرعة الدولية لحقوق الانسان وعلى العموم هي المرجع في النظر والحكم في دستورية أي تشريع أو أي عمل مخالف للدستور كليا أو جزئيا، وكلما كانت هذه المحكمة نشطة دستوريا ومستقلة بقدر ما يكون المجتمع ذاهب نحو الديمقراطية، لذا علينا التدقيق في طريقة وعملية تشكيلها ومن يعين أعضاء هذه المحكمة.


———————————————————————————————————————
* – إن عدم الاتفاق بين الفرقاء من قضاء وبرلمان ورئيس الجمهورية في تونس على تشكيل المحكمة الدستورية العليا وفقا لدستور 2014، سمح لقيس بن سعيد رئيس الجمهورية أن يمارس صلاحياته في الفصل ٨٠ من الدستور واعلان حالة الطوارئ
في تونس وحل البرلمان، مستغلا عدم تفعيل وتشكيل محكمة دستورية عليا بالبلاد، وتمديد حالة الطوارىء الاستثنائية، إلى ماشاء الله وتغول سلطة الرئاسة على السلطات الاخرى ليصبح مشروع ديكتاتور جديد، بما أن  السلطة المطلقة تنتج الاستبداد وتفسد المؤسسات .. فالمحكمة الدستورية العليا هي الجهة المخولة في السهر على الدستور ومراقبة القوانين المخالفة له، ومايصدر من تشريعات، بكامل الصلاحيات في الغاء كل القوانين المخالفة للدستور.

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

ما مصلحة السعودية من التطبيع مع إسرائيل؟

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية …

8 تعليقات

  1. الهيئة التأسيسية أو المجلس التأسيسي ليكون ممثلا للشعب ويمتلك صلاحيات لابد أن يأتي عبر إنتخابات حرة نزيهة ولايجوز تعيينه من أي مجلس غير منتخب وستكون تبعيته لمن قام بتعيينه.

  2. التسمية لمبادئ فوق دستورية تعني إنها فوق الشعب ولايحق للشعب تحت أي ظرف تعديلها.
    هكذا موضوع فوق الشعب وفوق سلطته لن تمر لأن الأصل يجب أن يصنعها الشعب ويحميها الشعب ولن يحمي الشعب مقررات فرضت عليه بطريقة غير دستورية ولاشرعية لها لأنها فرضت عليه بالإسقاط من قوة غير منتخبة ومن مجلس إنتقالي مؤقت لايحق له باتخاذ قرارات مصيرية تمس الشعب وقراراته السيادية

  3. عندما نقول حقوق إنسان ،وعهد دولي ،وما إلى هنالك من تسميات قد يكون فيها ماينقض ثقافتنا وخصوصية قيمنا ،فليس من المنطقي اعتمادها والموافقة عليها .
    مثلاً :
    أنا مسلم ومع كل الحريات المدنية التي لاتتعارض مع أخلاقنا .
    فانا لا اقبل من اي إنسان أن يسخر من نبي أو دين ،ولا اقبل بزواج المثليين ، ولا أقبل بقوانين انتهاك حرمة الأسرة وارفض عقوق الوالدين ،وأرفض ان يكون الجنس حرية سخصية ….إلخ .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *