في حالات نادرة، إيران تعلن عن قتلاها.

د. ممتاز الشيخ

قليلة هي الحالات التي تعلن إيران فيها عن تدخلها في سورية أو لبنان أو اليمن وحتى في العراق الذي تتدخل في أدق تفاصيل يوميات مواطنيه. وأفادت وسائل الإعلام الإيرانية الثلاثاء بمقتل عسكريين إيرانيين اثنين في مدينة الميادين بمحافظة دير الزور شمال شرقي سوريا وهما مهدي بختياري من بلدة إسلام شهر غربي طهران، أما الثاني فيدعى مجتبى بركنجي وهو من أهالي مدينة سوادكوه شمالي إيران بحسب الوكالة.

وبالفعل قلما تصرح إيران بذلك ولعل الحالة النادرة بعد عشر سنوات من التدخل الميليشياوي الممنهج حين كشفت فائزة هاشمي رفسنجاني ، ابنة الرئيس الإيراني السابق قبل شهر تماما ، أن والدها هاشمي رفسنجاني عارض التدخل الإيراني في سوريا، وأبلغ قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، قاسم سليماني، بذلك منذ البداية، مضيفة أن هذا التدخل خلف 500 ألف قتيل.

ولكن أمام هذا العدد الهائل من القتلى الإيرانيين، كم مرة أعلنت إيران عن قتلاها في سورية، في أفض الحالات لا يتعدى العدد بضع مئات، ولعلها اضطرت إلى ذلك لتسويق فكرة محددة ولغاية معينة مطلوبة في حينها، وبعد تغلغل إيران في تفاصيل سياسة النظام السوري، لكنها ما زالت تعلن أن حضورها لا يتعدى وجود بضعة مستشارين.

ولكن، لماذا هذا الصمت؟

تريد إيران أحيانا الإشارة إلى قتلاها مباشرة حين تتنافس مع آخرين للسيطرة على مكان أي في إشارة منها إلى التضحية التي قامت بها وأحقيتها اللاحقة بتقاسم السيطرة على هذا المكان أو احتلاله كاملا وهي تدرك تماما أن الأمر سيؤول إليها انطلاقا من التغلغل الثقافي والطائفي المدروس بعناية، وهو ما يصعب وجوده في أي من الاحتلالات الخارجية الأاخرى.

وفي حالة الإعلان عن بعض قتلاها في دير الزور فهي تدرك أن طبيعة المدينة الاجتماعية خالية تماما من الوجود الشيعي ولهذا تبذل قصارى جهدها الان ومنذ سنوات لإحداث تغيير ديموغرافي وتغيير التركيبة السكانية من أجل بقاء دائم أو شبه دائم وينافسها في تلك البقعة من الجغرافيا السورية الروس وبعض فصائل من جيش النظام السوري و ينافسها الأميركان وفصائل القوات الكردية المدعومة من التحالف الدولي على الضفة الأخرى من الفرات وهي تعاني كذلك من تعثر واضح في سير عملية التشييع على الرغم من الإمكانات المادية المبذولة هناك وعلى الرغم من خط الإمداد المباشر والسهل عن طريق العراق للتدخل المباشر شرقي سورية. وتشعر إيران بأن تهديدات بدأت تتزايد في الآونة الأخيرة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل وحتى من حليفتها روسيا لإخراجها من سورية أو من بعض مناطق منها على الأقل، ولعلنا سنشهد المزيد من الاعلان المباشر عن حضورها وعن خسائرها الماديىة والبشرية في تلك البقعة لاحقا بين فينة وأخرى .

وتعتمد إيران مبدأ ” التقية” ارتكازا على المفهوم الشيعي للمصطلح، فالتقية الشرعية موجودة في الدين الإسلامي بمذاهبه المختلفة، لكنها في غالبية المذاهب هي من مسائل الفروع لا الأصول، ولا بأس إذا ترَكها المسلم ولم يأخُذ بها، أما في المذهب الشعي فهي من أصول الدِّين، ومن لوازم الاعتقاد، بل لا دين ولا إيمان لمن لا تقيَّة له.

وقد نجحت إيران سواء قبلنا ذلك أم لم نقبل، في مبدأ تدخلاتها الخارجية طيلة فترة ما بعد 1979 اعتمادا على مبدأ “التقية السياسية” المشتق من التقية الدينية لتبرير تدخلها في العديد من الدول عبر أذرعها التي تصنع بعناية مسبقا في تلك الأماكن، حدث ذلك في العراق وفي لبنان ثم انسحب على سورية واليمن. ولم يكن ذلك ليحدث لولا استراتيجية غض النظر من قبل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وهذ الأخيرة أدركت بعد غزوها العراق أنها لا تستطيع تحمل الخسائر البشرية لتغطية مساحة العراق بعد غزوه فأوكلت المهمة إلى إيران التي جاءها غزو اعلراق كأكبر جسر لها لتجسيد مبدأ تصدير الثورة، بالمقابل لا تكترث إيران نهائيا بخسائرها البشرية مقابل تحقيق مكاسب تعتبرها مهمة على المدى الطويل في البلدان الأخرى.

ومع أن إيران قلما دخلت حروبا نظامية خارج حدودها (الحرب الإيرانية- العراقية، استثناء نادرا وحدث ذلك كشرط أساسي فرضته الدول الغربية وخاصة فرنسا لمساندة ثورة الخميني مقابل إعلان الحرب على العراق لإتهاك نظام صدام حسينالذي استفحل على الدول الخليجية وبدأ يهدد الهيمنة على خزان النفط فيها) لكنها (إيران)، وجدت في مبدأ الحرب بالوكالة أكثر فعالية ولعله أقل تكلفة مادية أيضاً بالقياس إلى خوض حرب جيوش نظامية لا يتقنها الجيش الإيراني، وينسجم التدخل الإيراني غير المباشر تماما مع مبدأ التقية والإخفاء والتخفي عن عن الرأي العام العالمي وعن الرأي العام المحلي الإيراني الذي يمكنه أن يكون مزعجاً في لحظات معينة خاصة وأن إيران تبذل الكثير من المال والسلاح لتمكين أذرعها في الدول الأخرى على غرار حزب الله في لبنان أو الفصائل الكثيرة في العراق أو الحوثيين في اليمن وميليشياتها المنتشرة بأسماء كثيرة في سورية، في الوقت الذي يعاني جزء كبير من الشعب الإيراني من الجوع والفقر الذي يدفع قسماً كبيرا منهم إلى البحث عن الدول المستضيفة للاجئين تحت مسميات عديدة.

ما لم تستدرك الدول العربية فرادى أو جماعة خطورة التغلغل الإيراني، وما لم تبن مشروعا استراتيجيا يأخذ تلك النقطة كأولوية في استراتيجياتها، فقد نجد بعد سنوات أن الذراع الإيرانية طابور خامس في كل الدول العربية صغيرة كانت أم كبيرة.

ولهذا تنسج إيران بصبر طويل شبكتها في كل مكان من الدول العربية بشيء يشبه صناعة السجاد الإيراني اليدوي المعروف حيث صناعة قطعة واحدة منه تحتاج إلى سنوات من العمل الدؤوب، ومنه نسخت إيران تجربة القطبة المخفية لتدسها في السياسة.

شاهد أيضاً

الليلة الليلاء على غزة المحاصرة

بعد قصف كثيف مارسته قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة طيلة أسابيع ثلاث، كثفت هذه القوات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *