الفرطعنو

مقالة قديمة بتاريخ كتابتها ونشرها، ولكنها جديدة متجددة بمحتواها وفحواها ومدلولها وغناها وتوظيفها..لذا أرتأى موقع ” سوريتنا ” أن يعيد نشرها بعد أن وصلتنا من الصديق والزميل الكاتب إبراهيم الجبين مشكوراً ..


الجمعة 2014/08/29

 

 

 

إبراهيم الجبين 

ليس العرب وحدهم من تمتّعوا بالحلول العبقرية للمشاكل والقضايا الحساسة، بل شاركتهم في هذا كل الشعوب التي عاشت من ضفاف بحر العرب جنوبا وحتى منابع الفرات ودجلة شمالا، لتمتدّ بهم تلك الذهنيات غربا نحو شمال القارة الأفريقية، وقد أوحى لي بذلك المثل الشعبي السرياني الذي يقول:”أحرقوا اللحاف كي يموت الفرطعنو” أما الفرطعنو باللغة السريانية فهو “البرغوث” الذي وجد هذا الشعب الطيب العريق أن التخلص منه سهل للغاية، يكفي أن تحرق اللحاف كلّه لتقتل البراغيث التي تعيث فيه.

وهكذا، فقد أحرقت شعوبنا كل متاعها، كي تقتل البراغيث التي حكمتها عقودا طويلة، وتم تدمير الأخضر واليابس نتيجة غياب الرؤية الاستراتيجية، فكان تحرير الأرض سببا لخرابها، وبقاؤها آمنة سالمة كان رهنا بهيمنة الاستبداد والدكتاتورية والتمييز الطائفي والعنصري، دون أن ننسى أن الفعل “فرطّعّ” بالعامية العربية يعني “نشر” و”بعثر”.

وسأبقى اليوم مع السريان، الذين حملوا مسؤولية نشر الرسالة المسيحية إلى العالم منذ القرن الميلادي الأول، سيما وأنها جاءت على لسان نبيهم المسيح بن مريم الذي نطق بالآرامية، وهم أحفاد الحضارات الأولى الآشورية والكلدانية، فكانت لهم اليد الطولى في بناء المسيحية لاهوتيا مستندين إلى إرثهم الحضاري الذي يضرب جذوره في عمق التاريخ القديم.

يقول السريان الذين عاشوا فقراء بسطاء كرماء: “وديا درجة ممونا” أي أن دليل الشهوة هو المال، فلم تغرهم الأموال الكثيرة التي سال لها لعاب الشعوب التي ساكنتهم الأرض والتاريخ، ولا ينظرون إلى غيرهم بحسد فهم يعرفون من هم ومن كانوا لذلك قالوا: “وططُا دنة مطا لمشوحةُ أد أرزا لا مايا” أي “ليس بوسع العوسج أن يبلغ علو شجر الأرز”، أما القيم التي انداحت في الثقافات التي جاءت من بعدهم فلم يكونوا غافلين عنها، لذلك فقد انتقدوا الربا الفاحش وقالوا:”حُبَة قَرنا ورِبيّة” أي :”ضاع رأس المال مع الرّبا”.

هم أهل الهجرات الطويلة، ومع ذلك فلم يستكينوا لمقامٍ في مهانة، لذلك قالوا: “كَلبا حُدّورا طُب من آريا ربيعا”، وهذا المثل يعني أن: “الكلب الجوال خير من الأسد الرابض”، وقالوا أيضا في الحكمة: “لا يقوم الظلّ ما دام القضيب معوجّا”، هؤلاء أهل الأرض، المستضعفون الذين تلقوا وعد الأديان التي ظهرت بينهم، ليبقوا مستضعفين، ولم ينفعهم انخراطهم فيها وحملهم لصليبهم على أكتافهم آلافا من السنين، ولتتناقل الأمم في أنحاء العالم أسماءهم وحكاياتهم وأساطيرهم دون أي امتنان، كما فعلت أوروبا باليونان، وكما فعلت أميركا بالقارة العجوز أوروبا، الحضارات تقتل بعضها البعض لتعيش، وتفتك بسالفتها لتخلفها، فلا بقاء للغابرين إن لم يطوّروا أنفسهم ويخلقوا خلقا جديدا في الفكر والحياة.

ولا يسعك سوى أن تتذكر أغنية سريانية قديمة تقول كلماتها: “زيل بشلومو حبيبتيذي، زيل محلوف لو أثريدي، هولا شلومو ويل عايذي،وعفرو مبرخو نشق محلوفي” ما يعني بالعربية :”اذهبي بسلام يا حبيبتي، اذهبي عوضا عني إلى وطني، امنحي سلاما إلى أرضي، والتراب المبارك أيضا قبّليه عوضاً عني”.

              إبراهيم الجبين 

              كاتب سوري

     

أدناه رابط المادة 

شاهد أيضاً

نقاش سوري حول دعم فلسطين؟!

د. مروان قبلان لم أتوقّع أن يأتي يومٌ يضطر فيه المرء إلى خوض نقاش بشأن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *