سباق دولي محموم في الجزيرة والفرات

 

محمود الماضي

ربّما لم يخطر ببال الكثير سبب نشوء “داعش” في الجزيرة والفرات، وتسهيل سيطرتها الكاملة على هذه المنطقة، في بداية عام 2014 إلّا بعد أن كانت ذريعة لكلّ هذه التدخّلات العسكريّة المباشرة على الأرض، ولا نبالغ إذا قلنا : كلّ ذلك يعود لأهميّة المنطقة الاستراتيجيّة، وموقعها الجيوسياسي .

ففي هذه المنطقة الجغرافيّة، تكمن ثروة سورية من النفط والغاز ، إضافة إلى القمح، والقطن، والشعير، والثروة المائيّة، حيث تعدّ شريان الاقتصاد السوري بكلّ المقاييس، ناهيك عن الموقع الجيوسياسي، الذي تشغله على الجغرافية السورية، وذلك من خلال حدودها المترامية مع شمال العراق، وجنوب تركيا، إضافة إلى التّعدّد الديموغرافي في الشمال الشرقي منها .

بعد أن سيطرت “داعش” على الجزيرة والفرات، وأخذت ثلث مساحة العراق، حتى راحت القوى الدولية تتحدّث عن ضخامة قوَتها، وهول خطرها، وأنّ الحرب معها قد تطول، كما قال أوباما يومها : قد يستغرق القضاء على “داعش” أكثر من أربع سنوات، وبالفعل أطالوا الحرب إلى خمس سنوات، وحدث ماحدث من الدمار والخراب والتهجير، إن في العراق، وإن في الجزيرة ومناطق الفرات, وربّما تتكشّف كثير من أسرار هذه المؤامرة القذرة، بعد أن رفع ترامب السريّة، قبل أيام عن إيميلات وزارة الخارجية الأميركيّة، في عهد أوباما وهيلاري كلينتون .

ورغم هزيمة “داعش” في مارس/آذار 2019 والقضاء على آخر معقل لها في بلدة الباغوز، على ضفاف الفرات، مازالت القوى الدولية المتواجدة في المنطقة، إلى يومنا هذا تكرر ذرائعها، وتبرّر وجودها في المنطقة .

فالتّدخّل العسكري الإيراني، بدأ مع انطلاق الثورة السورية، لمساندة نظام الأسد، والحيلولة دون سقوطه، فضلاً عن أنّها فرصة لتحقيق أهداف بعيدة بأبعاد قومية في سورية، على نطاق أوسع، ومن ثم جاءت ذريعة الإرهاب، للوصول إلى دير الزور، بغية تأمين طريق بريّ لها، من طهران عبر العراق، مروراً بالبوكمال إلى دمشق فلبنان، واعتمدت في ذلك على الميليشيات العراقيّة، وحزب الله اللبناني، لتحقيق هذا الهدف، فأخذت تعزّز تواجدها هناك، من خلال إنشاء مؤسسات حملت اسم “خيريّة” بحسب زعمها لشراء الذمم واستغلال المحتاجين، وكذلك ثقافيّة، إضافة إلى بناء المراقد، والحسينيّات، والعمل على نشر التشييع بين السكان هناك، بالتّرغيب، والترهيب، إلَا أنّها لم تستطع التّوسع في مناطق الفرات، شمالاً والوصول إلى مواقع أكثر استراتيجيّة، بسبب الوجود الأميركي، المهيمن على المنطقة .

 

بدورها أميركا هي الأخرى بعد هزيمة ” داعش”، راحت تبرّر وجودها العسكري في الجزيرة ومناطق الفرات، مرّة تقول : لوقف التّمدّد الإيراني، وأخرى لمنع “داعش” من تجميع خلاياها، وإعادة نشاطها  من جديد في المنطقة .

لكن أميركا لم تتوقّف عند ذلك، فقد عمدت على عدم إفساح المجال لروسيا، ونظام الأسد من التوسع في مناطق الجزيرة والفرات، والوصول إلى منابع النفط، وقد أعلنتها أكثر من مرة، أنّها ستحرم نظام الأسد من عائدات النفط، في دير الزور، والحسكة، وإطلاق يد “قسد” المهيمن عليها من قبل حزب العمال الكردستاني ” بي كا كا ” وهي المنظمة التي صنفتها أميركا نفسها بالإرهابية في هذه الثروة وحمايتها .

وقد نفّذت ذلك بالفعل، في حقول دير الزور، والشدادي، وقصفت في وقت سابق قوات نظام الأسد، وأوقعت فيها، عند محاولتها العبور إلى الضفّة اليسرى من الفرات، والاقتراب من مواقع النفط، وكذلك منعت روسيا من الاقتراب من حقول رميلان، وتعمّدت قوّاتها اعتراض، ومضايقة الدوريّات الروسيّة، أكثر من مرّة، في منطقة المالكيّة، وريفي القامشلي، وتل تمر، وأوشكت هذه الحوادث، أن تؤدي إلى اشتباك مباشر .

إلَا أنّ الهدف الذي لم تعلن عنه أميركا، من تعزيز تواجدها بالمنطقة، وتسليح ” قسد” باستمرار، هو محاولتها كما يشاع ويتردد على ألسنة المحللين إنشاء “كيان كردي” في المنطقة، سواء على شكل ما يعرف بـ “فيدرالية”، أم على الأقل ما يسمى بـ “إدارة ذاتيّة”، في بعض المناطق من الشمال الشرقي لسورية، وهذا مايصطدم بالموقف التركي، الرافض، والحازم تجاه هذا المشروع.

ذلك ماجعل أميركا، تنحى إلى المسعى السياسي، من خلال  توحيد الصف الكردي، عبر الحوارات التي ترعاها والتي عرفت بالحوار الكردي-الكردي، في هذه الفترة بين المجلس الوطني الكردي، وحزب الاتحاد الديمقراطي، والضغط على هذا الأخير، لإخراج كوادر PKK من “قسد” قيادة وعناصر وبالتالي إعادتهم من حيث أتوا ونعني بذلك إلى جبال قنديل وإيران، وفكّ الارتباط والتبعية نهائيا من الناحية السياسية مع حزب العمال الكردستاني، وفي ذات السياق طلبت من الائتلاف بحسب مصادر إعلامية، فتح قنوات للتّفاوض مع حزب الاتحاد الديمقراطي، بغية إدخالهم في المعارضة السورية .

أمّا روسيا فبعد أن أخرجت قوى المعارضة المسلّحة من حلب، والغوطة، ودرعا، وشمال حمص، وريف حماة، وريف إدلب الجنوبي، عبر استخدام أسلوب التّدمير الشامل حيناً، واتفاقيّات خفض التصعيد حيناً آخر، أخذت تتّجه نحو شرق الفرات، محاولة إعادة بعض المناطق إلى عهدة نظام الأسد، تلك التي خسرها في بداية الثورة .

وبهذا فقد وجدت اتّفاق سوتشي، مع تركيا اكتوبر/ تشرين الأول 2019 ، بعد العمليّة العسكريّة، التي قامت بها تركيا، والجيش الوطني، في تل أبيض، ورأس العين فرصة، للانتشار في مناطق الجزيرة، حيث تابعت دورياتها المشتركة، مع القوات التركيّة، ولم تتوقّف إلى يومنا هذا، محاولة بكلّ ما تملك، إعادة انتشار قوات الأسد في مناطق الجزيرة، والوصول إلى منابع النفط، خصوصاً بعد الانهيار الاقتصادي، الذي يواجهه نظام الأسد، وانعدام الموارد، إضافة للعقوبات المفروضة عليه.

 

وسبق أن اعترضت روسيا على موقف أميركا، وهيمنتها على النفط السوري، واعتبرت عقود النفط، مع شركات أميركيّة، غير شرعيّة، وتهريب النفط، هو سرقة لثروة الشعب السوري، كما صرّح وزير خارجيّتها لافروف.

لهذا ما انفكّت روسيا من إجراء لقاءات، مع بعض عشائر الحسكة الموالية لنظام الأسد، إضافة للحوارات المستمرة، مع قيادات الـ بي واي دي، إلّا أنّها لم تأت بنتيجة، حتى على المستوى الميداني، رغم تعزيز قوّاتها في مطار القامشلي، ومحاولة دورياتها الوصول إلى مناطق المالكية، ومنابع النفط منعت هناك، من إنشاء نقطة لها، ولم تحرز أيّ تقدّم، وقد صرّح مؤخّراً ضبّاط روس، أنّ “قسد” لاتتعاون معنا في المنطقة، وهذا ماأشار إليه ما يسمى بالقائد العام لـ “قسد ” مظلوم عبدي قبل أيام قائلاً : ” إنّ روسيا، والنظام لا يقدمان لنا أيّ تنازلات، ولا نتيجة من التفاوض معهم”، في حين صرّحت “إلهام أحمد”، رئيسة ما يسمى بالهيئة التنفيذية لـ”مسد”، يوم الأحد 14 اكتوبر/ تشرين الأول الجاري : “إنّ روسيا فشلت، في لعب دور الضامن في تفاوضنا، بسبب تعنّت النظام السوري” .

لذلك كانت روسيا في كلّ عرقلة لها، تحذّر من اجتياح تركي للمنطقة، وتستخدمه كورقة ضغط ضدّ “قسد”، في حال منعت دوريّاتها، وقوات النظام من الانتشار في المنطقة، وفق اتفاق بوتين أردوغان، في سوتشي أكتوبر/ تشرين الأول 2019 ،والذي يسمح لروسيا، وحرس الحدود التابع لنظام الأسد، بالانتشار في المناطق المحاذية للحدود التركيّة .

إلَا أنّ أميركا، لا تعترف عمليّاً بهذا الاتّفاق، وتعمل باستمرار، على عرقلة دخول القوّات الروسيّة، باتّجاه رميلان والمالكية، يبدو أنّ القضيّة، بين أميركا، وروسيا، غدت إثبات حضور في هذه المنطقة، حيث وصل الأمر بينهما، إلى الاعتراض بالطيران المروحي، ومن غير المتوقّع، حدوث أيّ تغيير في المشهد على الأرض، على الأقل إلى ما بعد الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة .

أمّا التدخّل السعودي، والإماراتي فقد اقتصر على الدعم اللّوجستي السخي لقوات “قسد”، متذرّعة بمواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة، رغم عدم قيام “قسد ” بأيّ نشاط، ضدّ الميليشيات الإيرانيّة، بل على العكس فقد تعاونت معها، في العمليّات العسكريَة، على الحدود السورية العراقيّة، فضلاً عن ارتباط قيادات قنديل بإيران .

بينما فرنسا تبرّر وجود بعض من قواتها، في الجزيرة، ودعمها لقوات “قسد”، ضمن عمليات التّحالف الدولي، في الحرب على داعش، لكن في الحقيقة الدعم الذي تقدّمه كلّ من فرنسا، والسعودية، والإمارات لقوات قسد، الهدف منه إزعاج تركيا، وإشغالها ببورة توتر، على حدودها الجنوبيّة .

 

تركيا تربطها مع سورية، حدود طويلة، تزيد على 900 كم، هدفها المعلن من عمليّاتها العسكرية في الشمال السوري، محاربة حزب العمال الكردستاني، PKK الذي تتحكّم كوادره، بقوات “قسد”، ومؤسساتها، والذي تعتبره منظّمة إرهابيّة، ارتكب على أرضها عمليّات إرهابيّة، ويستهدف أمنها القومي باستمرار منذ الثمانينيّات، وترى أنّ وجودها العسكري في شرق الفرات، ضمان لأمنها القومي، من أيّ تهديد، على حدودها، في هذه المنطقة، لهذا فحضورها في الشمال السوري كبير، وقوي، ناهيك عن الحليف السوري، الذي يمتلك الشرعيّة، والقوة العسكريّة، المتمثّل بقوى المعارضة، والجيش الوطني، الذي يسيطر على مناطق واسعة في الشمال السوري .

كلّ هذا السباق الدولي المحموم، في الجزيرة، والفرات، واستخدام الميليشيات المحلّيّة، والقادمة من خارج الحدود في الصراع، مازال مستمراً، دون أدنى وازع أخلاقي، أو إنساني، لما يعانيه أهل المنطقة، من ويلات الحرب الطاحنة، منذ تسع سنوات، وماجرّ ذلك من دمار، وخراب، وتهجير، وإلى الآن ليس هناك نيّة، من قبل هذه القوى الدولية، لإنهاء مأساة الشعب السوري .

 

 

 

 

 

 

 

                       

 

شاهد أيضاً

ما مصلحة السعودية من التطبيع مع إسرائيل؟

أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز الأمريكية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *