الوطن…ملعقة!

















 القاضي جمعة الدبيس 

حب الوطن شعور فطري رباني جبلت عليه كل المخلوقات، العاقلة وغير العاقلة، فإن كان للوطن معنى محدد للبشر فالحيوانات والطيور وسائر الكائنات الحية لها أوطانها أيضاً وإن بمفهوم وشكل مختلفين…
والوطن مفهوم يرتبط غالباً بالوجدان أكثر من ارتباطه بالماديات، فنجد كل البشر يحنون إلى مواطنهم الأولى؛ ليس لأنها الأجمل وإنما لأنها الأغلى، ولطالما رددنا قول أبو تمام:

نَقَّل فُؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى      ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ

كم منــــــــــــزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتى     وحنينهُ ابداً لأولِ منـــــــــــــــــــــــــــزلِ

وعندما كنت صغيراً سمعت من جدتي حكاية عن حب الوطن رسخت في ذاكرتي طويلاً: اصطاد أحدهم عصفوراً وأهداه لأحد الملوك، فأمر هذا الملك بوضع العصفور في قفص ذهبي، وتوفير أجود الطعام له ووضع الماء له ليشرب ويسبح ويغسل ريشه، لكن العصفور ما فتئ يردد “وطني… وطني” حتى ملَّ هذا الملك منه فأمر بإطلاقه وتتبعه لمعرفة موطنه الذي لم ينسه!

طار هذا العصفور حتى وقع على غصن مكسور يتدلى من شجرة في سرير نهر، فإذا ما هبت الريح من الأمام غطس ذيل العصفور في الماء، وإذا ما هبت من الخلف لمس منقاره الماء، فتعجب الملك من ذلك العصفور “الأخرق” الذي ترك قفص الذهب لأجل غصن مكسور.

كبرنا، فذهبت هذه الحكاية وآلاف الحكايات المشابهة لها أدراج الرياح، ومعها كم هائل من الأشعار والشعارات والحكم والأمثال التي تتحدث عن “الوطن”.

عرفنا أن الوطن هو حيث تستطيع أن تبتسم، حيث تشعر بإنسانيتك وكرامتك وتشعر بأنك حر، الوطن هو من يعطيك كما تعطيه، وبل وكثر من ذلك، عرفنا أن المواطنة الحقة هي حقوق تقابلها واجبات، وليست مشاعر نبيلة مجردة تدفعك للتشبث بوطنك فقط لأنه مسقط رأسك ومربع صباك وملتقى أحبابك، وتبقى أسير هذه المشاعر فتضحي بكرامتك للجلاد… وبحريتك وإنسانيتك حتى؛ بزعم أن ذلك لأجل وطنك!

 

منذ بضعة أيام التقيت بالعم “أبو وائل” شيخ مسن تركت السنين اثراً واضحاً على ملامحه السمراء، ولد في سورية لكنه منذ عقود يعيش في دولة عربية ويحمل جنسيتها التي هاجر إليها لأسباب غير مباشرة منها البحث عن حياة أفضل، وأسباب مباشرة أهمها “الملعقة”! فما هي قصة الملعقة …؟ 

يقول العم أبو وائل: خدمت وطني سورية لمدة خمس سنوات تقريباً، وعاصرت حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، تفاصيل كثيرة حدثت أثناء ذلك أذكر منها تلك اللحظة الفارقة المؤلمة!

منيت قواتنا بخسائر فادحة بالأرواح، كنا في الجولان وتحديداً في موقع “جباتا الخشب” التابع لناحية “خان أرنبه”

كنت في الفرقة السابعة التي يقودها العميد “عمر الأبرش” في اللواء (68) مشاة بأمرة العقيد رفيق حلاوة” وتحديداً في الكتيبة (232)

يسترسل العم أبو وائل بأسى: ولينا الأدبار بعد أن انهمرت علينا القذائف الإسرائيلية وتناثرت أشلاء زملاءنا من الجنود والضباط، وأذكر من أولئك الشهداء الذين قضوا أمام عيني وتناثرت اشلاؤهم الضابط “حسن سرية” وهو من بدو ريف دمشق، أو “الشام” كما لفظها العم أبو وائل شخصياً، ومجند من اللاذقية اسمه “زيبق” وأشخاص كثيرون لم أعد أذكر أسماؤهم لبعد المدى… 

لم يذكر الراوي فيما إذا كان الانسحاب قد حصل بأوامر عليا أم بتصرف من القادة المباشرين على الأرض تقديراً للموقف، ولم يذكر مصير القائدين عمر الأبرش ورفيق حلاوة اللذين وردت روايات عدة عن قيام “حافظ أسد” بإعدامهم!      

كذلك نحن لن نسبر هذا السياق لأنه شائك وبحاجة لبحث وتمحيص وذاكرة أقوى من الذاكرة المتعبة للعم أبو وائل ورؤية اشمل وأبعد مدى من رؤية رجل بسيط له ظاهر الأمور.

يكمل الراوي: بعد أن أنهيت خدمتي الإلزامية ذهبت لرعي الأغنام في البادية، وبعد سنة تقريباً أرسل والدي بطلبي على وجه السرعة وبإلحاح شديد!

 

عند عودتي للمنزل التقاني والدي وقد بدت علامات الوجل تلوح على محياه: راجع الشرطة يا ولدي، لا تجلس قبل أن تراجع شرطة “عين عيسى”

عبثاً حاولت أن أعرف السبب من والدي فهو نفسه يجهل ذلك، ومجمل الظروف المحيطة جعلتني أعتقد أنني أواجه مصيبة كبرى مع الحكومة.

بفرائص مرتعدة ولجت إلى مقر الشرطة العفن وأول ما طالعني صورة “المعلم” بطل التشرينين حافظ أسد مثبته بطريقة عشوائية بشريط لاصق تتدلى أطرافه على خزانة صدئة من التنك،وألقيت السلام… لم يرد المساعد أول البدين الذي كان يلقي بنفسه بلا مبالاة على كرسي شبه مهترئ مجدول من القصب وجريد النخل، وكان يشرب مشروب لم أتبينه حينها وعرفت لاحقاً أنه “المتّة”.

بعد أن تمعن ملياً في هويتي حدجني بنظرة حانقة وقال:

  • شو ولا كر شو عامل… ابتعرف إن عليك حكم!
  • لا يا سيدي للتو عرفت بذلك، ولا أذكر أنني ارتكبت جريمة طيلة حياتي، بل ولا حتى مخالفة، ووالدي يدفع ضريبة الأغنام للمالية كل سنة و….
  • خلاص خلاص ولا حردون “لا تكتر لعي”… راجع الرقة بكرا.

يا لعظم مصيبتي؛ ما تراني قد فعلت، وما هو المصير الذي ينتظرني!

مع خيوط الفجر الأولى اعترضت طريق “البوسطة” الوحيدة التي تقلني إلى الرقة وفور وصلولي ذهبت إلى المجمع الحكومي، وكانت المفاجأة!!!

وطن خدمته سنوات خمس، وأحببته كما يحب كل امرئ وطنه، لم أخنه يوماً، لم أفر من المعركة حتى انسحب الجميع وتقهقروا وشاهدتأشلاء أصدقائي تتناثر على ثرى هذا الوطن…    
هذا الوطن لم يقدم لي شيئاً يذكر، لا حرية، ولا كرامة، ولا رغد عيش حتى، لكنني أحبه.

بعد كل هذا تبين لي أن الجريمة الشنيعة التي ارتكبتها بحق وطني واستدعت محاكمتي غيابياً وتطلبت انعقاد جلسات محاكمة من قاضي وكتبه ومراسلون وسعاة ورجال درك يبحثون عتي في الفلاة؛ هي أنني وأثناء تسليم عهدتي يوم تسريحي (بعد خمس سنوات) وجدوا أنني لم أقم بتسلم مفردة مهمة كانت بحوزتي واستلامي، ألا وهي “ملعقة” طعام!

ولأجل ذلك قمت بتسديد ثمن الملعقة إنفاذاً للحكم فدفعت مبلغ “ورقتين” ويعني العم أبو وائل ليرتين سوريتين… حدث ذلك عام 1976.

وطني…ما زلت أدعوك أبي            وجراح اليتم في قلب الولد؛

هل درى الدهر الذي فرقنا            أنه فرّق روحاً عن جســــــــد!

كيف لي أن أقنع العم أبو وائل بالعودة إلى وطنه!!!

 

 

 

 

 



شاهد أيضاً

لماذا تكرهوننا إلى هذه الدرجة؟

محمد كريشان كبيرا جدا صار حجم النفاق الغربي في التعامل مع قضايانا، وما يصاحب كل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *