صورة ارشيفية

احترق البلد وانتهى نظام الأسد !

د. ممتاز الشيخ

العنوان ليس نبوءة بقدر ما صار الامر واقعا.

“الاسد أو نحرق البلد” شعار أثار دهشة العالم واشمئزاز الوطنيين السوريين، ومن ارتضاه خاصة من السوريين سراً أو علانية، فمن العبث إدراجه في تعداد السوريين الوطنيين.

واليوم، وبغض النظر عن الانحرافات الكثيرة التي تعرض لها مسار الثورة السورية إلا أن ذلك لا يتحمل تبعاته السوريون وحدهم بعد أن تبين أن ذلك جرى بإرادة دول كبرى واخرى عربية وإقليمية وذلك أكبر من قدرة السوريين على مواجهته بوجود نظام لم يعرف سوى البطش والفساد.

وصحيح أن بعض الدول العربية عملت على دعم فصائل بعينها من الثورة لكن ذلك لم يكن بقصد إنجاح الثورة السورية بشعاراتها الأولى في الحرية والكرامة بقدر ما كان يهدف إلى إغراق الثورة في مستنقعاتها المحلية كي لا تنقل شرارة ثورات الربيع العربي إلى بقية الأنظمة العربية.

وحين لم تفرز الثورة قيادتها المركزية المدنية والعسكرية في الداخل السوري تشتت أهدافها وتعددت خططها وتقاطعت، وباتت عرضة للاختراق من قبل النظام السوري أولا وأجهزة مخابرات أكثر الدول. وبعد أكتوبر 2011 تمكن النظام السوري نسبيا من التخلص من حالة الارتباك الأولى وحسم خياراته اعتمادا على إيران التي شجعته ماديا ومعنويا على المضي فدماً في مواجهة الحراك الثوري بكافة الأسلحة ومهما بلغت التكلفة البشرية والاقتصادية، وأذكر هنا دعوة إيران لوفد الحكومة السورية منتصف 2011 إذ قيل للوفد (إن إيران قد ادخرت أموالا طائلة بعد ارتفاع سعر النفط في السنوات السابقة لـ2011 وأودعت أطنانا من الذهب في الصين، و هذه الأموال وزيادة عليها الآن تحت تصرف القيادة السورية للقضاء على الإرهاب الذي تتعرض له)

أما النظام السوري فسرعان ما استرجع خبراته الطويلة في تحريك التنظيمات الإسلامية المتطرفة (العراق بعد غزو أميركا له) واستخدم تجربته الطويلة أثناء تدخله في لبنان وصولاً إلى تحكمه فيه بشكل كامل 1976- 2005) كما سخّر النظام تجربته في اختراق المنظمات الثورية (منظمة التحرير الفلسطينية، نموذجاً ليس وحيدا) ولهذا لم يتردد لحظة في إطلاق سراح المتطرفين الإسلاميين من صيدنايا وبقية المعتقلات الرهيبة حدث هذا بمشورة إيرانية وإيعاز مباشر من ماهر الأسد وحافظ مخلوف، وكان (النظام)على يقين من قدرة المتطرفين الإسلاميين في سجونه على عطب الثورة واختراق غالبية صفوفها الضعيفة أمام الشعارات الدينية، كما أجاد بمتاجرته بالشعارات التي سترفعها التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وعندها يمكنه تخفيف حدة الدول الغربية من انتفاد وحشيته تعامله مع جمهور الثورة، وبالفعل لم ينقض وقت طويل وقبل أن تتبلور تجربة الجيش الحر حتى بدأت عملية اختراق الأخير مما سهّل منة تفتيت تشكيلاته الهشة عن طريق شراء ولاءات بعض قادتها أو دس بعض القادة بين صفوفهم لإرباكهم ومنعهم من استكمال إطار أيديولوجي وتنظيمي خاص بهم.

لم تصمد تشكيلات الجيش الحر الهشة طويلاً حتى تبعثرت وصار الانقضاض على مناطق سيطرتها عملية غير مكلف بشريا أو ماديا أمام كتائب مثل النصرة و” داعش” المدعومة سراً من النظام السوري ومن حلفائه الإيرانيين أو تلك التي تحرك بعضها أجهزة مخابرات الدول العربية . ولم تتقاطع أهداف تلك التنظيمات يوما مع الحرية والكرامة وغالباً ما كانت أهدافها مرحلية وعابرة، ولهذا لم يلتفت مثلاً “داعش” أو غيره إلى إنشاء بنية تحتية أو مدارس وجامعات أو مراكز صحية وغيرها من الخدمات الضرورية وإن حدث مثل هذا فبالحد الادنى ولغايات محدودة، كما أنه لم يكترث حتى لاستقطاب الجماهير العريضة لأن قادته الاساسيين يدركون طبيعة المهمة. وإلا أين ذابت الآلاف منهم؟

على مقلب آخر تنطحت بعض الشخصيات في الخارج لمهمة سد الثغرة الفجّة في جسم الثورة والمتمثلة بعدم وجود قيادة موحدة لها وحاولت تلك الشخصيات العمل على إيجاد إطار مؤسساتي جامع للثورة السورية كالمجلس الوطني السوري منذ إعلا تأسيسه 2-10-2011، لكن ذلك كان ضربا من المستحيل لأسباب كثيرة وليس أقلها ذلك المتمثل في عدم الانسجام بين أفراد قيادتها التي جمعت بذور فنائها في أحشائها (على حد تعابير الماركسيين عن الرأسمالية) وخلطت تشكيلة المجلس اليمين المتطرف باليسار الليبرالي وكذلك بسبب ابتعاد شخوصها عن واقع الحراك الجماهيري وجغرافيا الأرض السورية لسنوات طويلة، وكان ذلك كافيا لشل العملية الإدارية المطلوبة لتمرير التوجيهات والتعليمات إلى قواعد الحراك في الداخل السوري التي من المفترض أنها تنطق باسمها، كما أن قادة الحراك في الداخل بدوا وكأنهم استهجنوا مثل تلك القيادة الغريبة وذهب الأخيرون أحيانا إلى حد تخوين الممثلين المفترضين.

كان من الواضح أن االحراك الثوري لم يكن بإمكانه وحيداً أن يصمد طويلاً امام آلة قمع النظام السوري الذي لم يحسب يوماً ما إلا لمثل تلك اللحظة، وبالفعل لم يمض العام الأول من عمر الثورة حتى تقطعت الطرق بين أوصال جماهير الثورة، ونصب النظام السوري حواجزه في كل حارة وأمعن في عمليات القمع الاعتقال والتنكيل لترهيب الشعب الأعزل وعلى مرأى من العالم كله دون تدخل جدي منها، كما أن الدول الغربية وعلى راسها الولايات المتحدة الأميركية فقد ظلت مترددة في دعم الحراك الذي شجعته في البداية وما إن صار من الصعب العودة إلى الوراء بعد مضي أشهر فليلة من 2011 حتى تلاشى حماس الدول الغربية في المساعدة على تحقيق أول مطلب للجماهير الثائرة في إزاحة النظام السوري بحجة عدم نضوج بديل مناسب مرة وبحجة انحراف الثورة عن مسارها وجنوحها نحو الشعارات الإسلامية. ومقابل تردد أصدقاء الثورة السورية كان هناك إصرار وعزم استراتيجي لحلفاء النظام خاصة روسيا وإيران.

وعلى مستوى المجتمع الدولي ومؤسساته فقد توازعت الدول الغربية مع روسيا والصين الأدوار، فالأولى تقترح مشاريع غير مكتملة الجوانب وغير مدعومة لحل المسألة السورية، بينما تعمل الثانية على تعطيلها في مجلس الأمن، وبقي الواقع الصعب أمنيا وسياسيا واقتصاديا هو السائد دون أي اكتراث لوضع ملايين السوريين وقد زُج بهم أمام آلة القمع الرهيبة وتركهم تحت نيران البراميل المتفجرة من جهة والصواريخ والاسلحة الروسية الفتاكة وحشود الميليشيات المدعومة إيرانيا على الأرض، ولم يشهد الواقع طيلة تسع سنوات أي مقترح قابل للتطبيق يمكن من خلاله تجنيب الشعب من الانتقام الطائفي المسعور أو التفكير بكيفية تدبيره لحياته اليومية مع تهاوي سعر صرف الليرة السورية المتسارع حتى وصل اليوم متوسط دخل المواطن السوري لا يتعدى 25 دولاراً مع سعر الدولار الذي تخطى 2900 ليرة حتى كتابة هذه الكلمات .

بقيت جذوة الثورة السورية مشتعلة تحت رماد سورية العميق تنتظر الشروط الإقليمية والدولية المواتية لتجسيد شعاراتها التي صارت تبدأ وتنتهي عند إزاحة النظام الذي تعفن حتى أعمق طبقاته وسُلبت إرادتُه وتمرغت كرامته نهائيا حتى بات هو الاخر ينتظر مع بقية الشعب السوري قرار خروجه مأموراً أو تركه يواجه مصيره أمام محكمة الشعب وقراره.

احترق البلد أكثر من مرة وبقي الأسد ولم يبق في الوقت نفسه، وصحيح أنه مع اجتماع المتناقضات على الساحة السورية لم يعد بإمكان المنجمين والمحللين الاستراتيجيين تحديد تاريخ معين لليوم الذي لن يكون فيه الأسد أو حاشيته في قصر المهاجرين، لكن شروط هذه اللحظة باتت ناضجة تماما ولا تحتاج سوى إعلان الخبر العاجل على الشاشات والذي لن يكون مفاجئا لأحد في أي لحظة بعد هذه الساعة.

شاهد أيضاً

حروب الصورة والوردة الإسرائيلية

لا حدود لمظاهر الانحياز الفاضح للرواية الإسرائيلية ولجيش الاحتلال الإسرائيلي لدى كبريات وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمسموعة والمرئية على حدّ سواء؛ خاصة تلك التي تزعم عراقة في التأسيس والتقاليد والمهنية العالية (مثل الـBBC البريطانية)، والكفاءة التكنولوجية الفائقة في مختلف جوانب التغطية المباشرة أو عن بُعد (مثل الـCNN الأمريكية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *