ممدوح حمادة في عرض عسكري













بقلم ممدوح حمادة

إنها الذكرى الخمسون لجلوسه، نعم الخمسون فهو جالس هناك في ذلك القصر المشرف على المدينة من الأعلى منذ خمسين عاما، لم يسبق لملك أو رئيس قبله أن سرق من تاريخ هذا البلد خمسين عاما كاملة، كان شعبنا في السابق أكثر حيوية  لم يسمح لحاكم بان يركب فوق ظهره كل هذه المدة، وضباطنا كانوا أكثر نزقا لم يكونوا قادرين على تحمل الزعيم أكثر من عدة سنوات ثم يقتلعونه كما يُقتلع مسمار صدء من لوح خشبي يحتاج لإعادة تثبيت، إلا هذا فقد تمكن من ترويض الجميع، لا كما تروض الخيول، فالخيل بعد الترويض يبقى فيها شيء من كرامة، لقد روضنا هذا كما تروض القرود لم يُبقِ في نفوسنا بعد الترويض على إثر من كرامة وهو اليوم سيحتفل ويجعل الجميع يحتفلون معه بالذكرى الخمسين للبدء بعملية ترويض القرود عندما جاء ليلا قبل خمسين عاما من هذا التاريخ على ظهر دبابة واحتل القصر المشرف على المدينة ومقر الاذاعة والتلفزيون وأعلن أنه سيغير كل شيء، وبما انها ذكرى يوبيلية فإن العرض اليوم سيكون مهيبا بالتأكيد كل التحضيرات توحي بذلك.

 

منصة المراسم التي فرشت درجاتها بالسجاد الأخضر وتوزعت عليها الكنبات والمقاعد الخالية، تحتل شاشة التلفزيون منذ الصباح الباكر، الكاميرا الثانية التي ينتقل إليها المخرج أحيانا، ترصد أسفل المنصة، حيث دبت حركة نشيطة حولت المكان إلى خلية نمل حقيقية، عسكريون من ضباط صغار وصف ضباط وجنود يروحون ويجيئون ويؤشرون بايديهم في كل الاتجاهات  موزعين الأوامر هنا وهناك ، لا نسمع أصواتهم ولكننا نرى حركاتهم المتشنجة، ومدنيون يبدو أنهم فنيون، بعضهم يجر أسلاكا وبعضهم يشد براغي أو يدق مسامير، والبعض ينادي أحدا ما خارج الكادر، صوت المذيع يصدح بالشعارات الوطنية التي اعتاد عليها الجمهور منذ خمسين عاما، المراسلون يلتقون بعضا من المدعوين الذين ازدحموا على المنصات الملحقة  بمنصة الشرف منذ ساعات وقد حمى معظمهم الرؤوس من أشعة الشمس الحارقة بيده أو بجريدة في يده أو بأشياء أخرى سمح باصطحابها، هم خليط من المخمل الاجتماعي موظفون كبار فنانون رجال أعمال إلى آخره، هذا فنان مشهور يسألونه عن رأيه بالمناسبة فيشيد ويعدد الانجازات ويخص منها بالذكر الإذاعة والتلفزيون علما أن عمرهما ستين عاماً، لقد حذف من تاريخهما عشر سنوات كرمى لعين الرئيس، لا يهم فما الذي تعنيه عشر سنوات في عمر التاريخ؟ لا شيء،عدد انجازات سيادته التي لا تعد ولا تحصى كما ذكر، مع أنه عدها واحصاها لا بل حاول أن يتذكر انجازات ربما قد نسيها، وذلك أستاذ جامعي يشيد أيضا ويكرر نفس الانجازات ويضع من بين الانجازات تأسيس الجامعات التي حذف منها تاريخ كل منها أكثر من خمسين عاما كرمى لعيني الرئيس، وآخرُ مؤرخ  يشيد ويكرر الانجازات عن ظهر قلب كما لو أنها قصيدة يجب تلاوتها في الامتحان، غير أنه يضيف على من سبقه في الحديث، الأثر العميق الذي تركته هذه المناسبة على حركة التاريخ والتي شبهها بالميلاد وقال إنه لو كان هناك عدل في تدوين التاريخ لقيل قبل وبعد قدوم سيادته، كل شيء يدل على عظمة المناسبة التي تجمع هؤلاء وسُخّرت لها شاشة التلفزيون منذ ساعات الصباح الأولى في بث حي ومباشر.

 

مرت ساعات على هذه الحال قبل أن تشرئب أعناق الواقفين على المنصات الجانبية وتستدير باتجاه المدخل الخلفي الذي يتوسط المنصة الرئيسية، ويشد قصار القامة منهم قاماتهم ويقفون على رؤوس أصابعهم وبعضهم يصعدون على المقاعد للتمكن من استراق نظرة إلى الرئيس الذي ظهر على رأس رهط من الضباط العابسين ذوي السراويل ذوات القلم الأحمر والموظفين الحكوميين الذين بدوا بكامل أناقتهم الرسمية، أما المذيع فقد ازدادت نبرته انفعالا وتصاعدت خلجات صوته وأطلق مجموعة جديدة من العبارات التي خصصت لهذه الذكرى، ولشدة انفعاله فقد كان يفقد السيطرة على نفسه وينتحب بين الفينة والأخرى، أفراد الفرقة الموسيقية العسكرية توقفوا عن دوزنة آلاتهم واتخذوا وضعية الاستعداد التي تدربوا عليها وانتظمت صفوف خلية  النمل التي كانت تنغل أسفل المنصة  من العسكريين بينما اختفى المدنيون ولم يعد يقع في الكادر إلا مصور هنا أو هناك.

 

وما هي إلا لحظات حتى  كان الرئيس يقف في وسط المنصة وقد اصطف الجنرالات وكبار موظفي الحكومة حوله من الخلف وعلى الطرفين، كل على مسافة تناسب مستوى المنصب الذي يشغله، وانطلقت الفرقة الموسيقية، وأعلن المذيع بدء العرض العسكري الذي تم تحضيره على شرف هذه المناسبة العظيمة.

 

أخذت الكاميرا تتنقل بالتناوب بين الرئيس وبقية المسؤولين بلقطات قريبة وبعيدة متوقفة على كل شخصية بحسب أهميتها، وكانت كاميرات أخرى نصبت في أماكن ما على المنصة أو تحتها ترصد صفوف الجنود الذين كانوا يصطفون في أرتال منتظمة على مسافة من المنصة في انتظار أن ينتهي الرئيس من إلقاء كلمته التاريخية المقتضبة.

 

ولكن وأثناء بعض اللقطات القريبة، رصد المخرج انفعالات غريبة على وجوه الشخصيات التي ملأت درجات المنصة، انفعالات بدا فيها تذمرٌ واضحٌ من أمر ما، هذه الانفعالات سابقا كانت تسبق الانقلابات فما إن تظهر على الوجوه فوق منصة الشرف حتى تسمع البلاغ الأول يصدح في الاذاعة في اليوم التالي، اليوم كل الذين على المنصة كانوا مدجنين فجميعهم يسترقون بأطراف عيونهم نظرات خفية نحو الرئيس وكأنهم في انتظار إشارة ما يوجهها لهم لكي يقوموا بفعل ما، حتى الرئيس لم يكن هو الآخر بخير، فقد ارتسمت على وجهه ملامح لا تدل إلا على القرف، فصل المخرج الكاميرات التي كانت ترصد اللقطات القريبة واكتفى بتلك التي كلفت باللقطات العامة وبالكاميرا البانورامية التي كانت  في حوامة تحلق فوق المكان.

 

لم يتمكن الرئيس من الاحتمال حتى ينتهي من إلقاء الكلمة فرفع يده اليمنى وسد  أنفه بسبابتها وإبهامها، وأكمل السطرين المتبقيين بأنف مسدود، وقد كان ذلك بمثابة الإشارة التي انتظرها  جميع نزلاء المنصة والمدرجات لكي يقوموا بنفس الفعل، فقد سارع الجميع بانشراح واضح إلى رفع الأيدي لسد الأنوف.

 

صعقت المفاجأة المخرج الذي أمر عبر جهاز اللاسلكي بتوجيه الكاميرات على الفرقة الموسيقية.

 

في الفرقة الموسيقية لم تمض لحظات حتى توقفت كافة الآلات النفخية عن العزف بعد ان سد العازفون أنوفهم ولم يبق على رأس عملهم سوى قارعي الطبول الذين سد كل منهم أنفه بيد، وتابع قرع طبله باليد ألأخرى.

 

صاح المخرج عبر جهاز اللاسلكي آمرا بنقل الكاميرات على صفوف الجنود التي أخذت تتقدم، وقد كان ذلك مخرجا بالفعل، فقد كانت أرتال الجنود تقترب من المنصة بخطى منتظمة لأرجل تكاد الأرض تهتز حين تصطفق بها نعالها.

 

تنفس المخرج الصعداء لأنه عثر على ما يمكن إظهاره على الشاشة، واسترخى على كرسيه في عربة النقل قليلا، بل وشعر بشيء من الاستمتاع في متابعة هذه اللوحة الفنية التي يرسمها الجنود، آلاف مؤلفة من الأرتال تتحرك حركة واحدة مصدرة صوتا واحدا، أمر يبعث على الهيبة.

 

 

 

ولكن ذلك لم يدم طويلا فما إن وصلت طلائع الأرتال إلى أمام المنصة حتى دبت في أوصالها الفوضى، واختل إيقاعها وكأنها قطعان من الماشية هاجمتها الذئاب، حيث رفع الجنود ايديهم إلى أنوفهم وأغلقوها وأخذوا  يتراكضون مبتعدين عن المنصة وكأنهم يتجاوزون طفحا في المجارير.

 

“كل الكاميرات على الأرتال الخلفية.”

 

صاح المخرج عبر جهازه اللاسلكي، ولكن  الرائحة كانت قد امتدت إلى الأرتال الخلفية التي كانت قد سدت أنوفها أيضا، مما جعله يصيح:

 

“على السماء.. كل الكاميرات على السماء.

 

وهكذا احتلت شاشة التلفزيون سماء زرقاء تعبرها سحب خريفية بيضاء، ومن مكبرات الصوت فيه كانت تنبعث أصوات لطبول تخلو من أي إيقاع، وصوت المذيع الذي لا يزال يطلق الشعارات ولكن بخنة واضحة.

 

الجماهير التي كانت تتابع وقائع العرض على الشاشة، لم تستغرب ما حصل،  فهي كانت قد سدت أنوفها منذ أن حصلت تلك المناسبة التي يحتفلون بها اليوم، قبل خمسين عاما بالضبط.

شاهد أيضاً

لماذا تكرهوننا إلى هذه الدرجة؟

محمد كريشان كبيرا جدا صار حجم النفاق الغربي في التعامل مع قضايانا، وما يصاحب كل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *