Syrian defendant Eyad A. arrives at a court for the first trial of suspected members of Syrian President Bashar al-Assad's security services for crimes against humanity, in Koblenz, Germany, April 23, 2020. Thomas Lohnes/Pool via REUTERS

على هامش محاكمة السوريين في أوروبا(2).. لِمَ لَمْ يصفوا لحم الأسد؟

د. ممتاز الشيخ

مازال لدينا كسوريين  بعض من أمل أن لا يفوت المحكمة الألمانية في كوبلنز أن تضع الحق في مساره الصحيح وأن تدقق بعناية في وضع  كل من الضابط أنور رسلان وصف الضابط إياد الغريب ، الذين تم توجيه اتهامات إلى كل منهما بارتكاب جرائم بحق مواطني بلدهم بين 2011 و2012 قبل انشقاقهما، وسيبارك العالم و الإنسانية جمعاء قرار الحكم فيما لو أخذت المحكمة بعين الاعتبار التالي:

  • مواجهة المتهمين بمن قاموا على تعذيبهم أو اغتصابهم شخصيا أو مواجهتهم بالأدلة الدامغة فيما لو قاموا بالقتل، أما بالنسبة للضحابا ، فعلى ذويهم أو من ينوب عنهم من حقوقيين وقانونيين أن يثبتوا ذلك أمام المحكمة ، وخلاف ذلك سيكون من غير العدل أن تُلصق بهم الارتكابات التي كانت تتم في مكان خدمتهم كما لو أنهم من قاموا بها فقط لأنهم كانوا في تلك القترة من عداد العناصر العاملة في الفرع.
  • النظر في صلاحيات كل من المتهمين خلال خدمته فيما إذا  كان مخولاَ في إصدار أوامر الاعتقال أو التغذيب أو القتل أو حتى لو أثبتت المحكمة أنه استغل وظيفته الأمنية للقيام بالانتهاكات، وبغير هذا يتعذر عمليا الحكم على أي منهما للاشتباه بارتكاب جرائم، وعليه فالوضع يوحي كما لو أنهما يحاكمان بالنيابة عن الفاعلين الحقيقيين من اصحاب الأمر والنهي في الفروع الأمنية السورية، وهذا ما لا يقبله أحد من السوريين أو من غيرهم.

ومن المفترض أن يمتلك مسار العدالة الألمانية من الخبرة ما لا تملكه أي دولة أخرى باعتبار أن ألمانيا مرت بالتجربة نفسها  خلال محاكمات  مجرمي القيادة النازية في نورنبرغ والتي بدأت بعد ستة أشهر من استسلام ألمانيا للحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية، والمعروف أن ملاحقة المتهمين بقيت متواصلة، ولعل آخر محاكمة لأحدهم فقد كانت في العام 2015 (أوسكار كرونيغ 93 عام)

لا أعتقد أننا وصلنا إلى الوضع الذي يسمح لنا كسوريين البدء بإجراءات العدالة الانتقالية، الأمل الأخير الذي ينتظره السوريون بعد أن خسروا كل شيء تقريباً، لأن الإجرام والقتل والتدمير ما زال قائماً حتى اليوم، ولأن القاتل ما زال يمارس القتل دون رادع  وعلى مرأى من العالم كله.

ومن غير المنطق أن يدفعنا حماسنا لرؤية القتلة في قفص الاتهام، أن نرضى بمحاكمة أشخاص يشكك جزء مهم من السوريين أنهم لا يملكون قرار القتل أو التعذيب او الاعتقال (حسب ما يتداوله السوريون قإن ضباطا من ذوي الرتب العالية في الجيش والأمن أحيانا لا يملكون أي قرار صغيرا كان أم كبيرا، حتى أن بعضهم لا يملك القدرة أحيانا على تقديم “بطانية” أو “سندويشة “للمعتقلين المقربين منهم وفي مكان خدمتهم أحيانا).

لعلنا نجزم  أن السوريين وحدهم هم الأقدر على تحديد دور كل شخص في المقتلة السورية، كما أنهم أقدر من غيرهم على تحديد معايير هذه المحكمات فيما لو حانت شروطها، انطلاقاً من الوضع السوري وتعقيداته الداخلية التي لا يعرفها سواهم، وآنذاك يمكن فعلا للمحكمة أن تكون أقرب إلى إحقاق الحقوق.

ثمة غياب صارخ للاستراتيجية التي تنتهجها محكمة كوبلنز، حين باغتت المحكمة الجميع بخطوتها المفاجئة وإجراءاتها وربما بدورها، ولم نعد نعرف بعد فيما إذا كانت قد بنت دعواها على أساس أنها سابقة ويمكنها أن ترتقي فعلاً إلى كونها أول محاكمة لمجرمي النظام السوري  (كما وصفتها غالبية وسائل الإعلام ) وهي خطوة مبدئية في مشوار طويل نحو محاكمة عادلة لكل أو بعض من أجرم بحق السوريين خلال فترة زمنية ما سواء قبل أو بعد 2011، أم أنها محكمة مثل أي محكمة محلية أخرى عادية بنت إجراءاتها بناء على ادعاءات أو معلومات أدلى بها شخص أو جهة تطالب بإنصافهم من أشخاص ارتكبوا بحقهم جرائم أو انتهاكات في مكان وزمان ما، انطلاقاً من أن طرفي القضية (المتهم والضحية) بين أيدي السلطات الألمانية الآن.

استضعفوك فوصفوك… هلّا وصفوا الأسد !

 يكون المشهد  مقبولا فقط، لو أن  أحد من الذين تعرضوا للتعذيب لدى أجهزة الأمن السورية تقدم بدعواه هذه ضد آخر ويطلب من السلطات الالمانية إنصافه بعد تقديمه أدلة وإثباتات لاتقبل التخمين أو الشك، وفيما عدا ذلك فإننا شهود على إجحاف آخر بحق الثورة السورية، حين لا يتقدم القاتل إلى المحاكمة ونقتنع بمن كان يعمل في الجهاز الأمني نفسه بديلاً عنه، بمعنى آخر كأننا نقبل تقديم قرابين ريثما  يحين موعد محاكمة القتلة الحقيقيين الذين صكوا شعار (الأسد أو نحرق البلد) وجسدوه دون أن نتمكن نحن أو غيرنا منهم. في مثل تلك الحالة  تنطبق على مثل تلك المحاكمات  مقولة ابي العلاء المعري حين مرِض مرضاً شديداً فوصف له الأطباء أكل لحم الديك فلما قُدِّم إليه  رفعه وقال: “استضعفوك فوصفوك، هلّا وصفوا شبل الأسد ؟”.

كانت صورة المتهم إياد الغريب غريبة وهو يغطي وجهه بالكامل عن الكاميرات في الجلسة الأولى التي تقصدت وسائل الإعلام أن تنقلها إلى العالم، ولا ندري فيما إن كان مثل هذا الفعل يعني أنه فعلاً لا يريد أن يرى العالم وجهه أسفاً وندامة على ما اقترفه بحق السوريين، أم أن العكس هو الصحيح فقد غطى وجهه لأنه لا يريد ان يظهر بالصورة التي أُرادت المحاكمة لها أن تنتقل إلى العالم، ولم يقبل أن يظهر باعتباره أحد رموز النظام القاتل ولم يقبل أن يوضع في خانة الشبيحة وهو الذي غامر بحياته وحياة عائلته ودفع ثمنا كبيرا ليظهر وجهه في الصف الآخر.

غالبية المعلومات المتواقرة تشير إلى أن المتهم إياد الغريب جازف بحياته وحياة عائلته حين انشق في بداية 2012 عن النظام وقبل هذا التاريخ كان من الصعب جدا الانشقاق عن الأجهزة الأمنية المراقبة عناصرها بدقة، وأن الغريب اختار أن يكون مع الشعب السوري في لحظة مواتية بعد أن رأى ما رآه من ممارسات إجرامية صارخة لا لبس فيها هذه المرة (بعد 2011) من قبل أجهزة الأمن السورية  وشبيحتها بحق المتظاهرين السلميين العزل، وأن الرجل عاش ما يقارب سنوات ثلاث في مخيم اللاجئين في تركيا ثم قترة أخرى قضاها في مخيمات اليونان قبل ان يصل إلى ألمانيا بناء على موافقة لم الشمل بعد أن غامر بإرسال أحد ابنائه القضّر إلى ألمانيا، وأظن أن السلطات الألمانية كانت على دراية بوظيفته السابقة تماما وكان من السهولة بمكان، أن لا تمنحه تأشيرة الدخول المطلوبة باعتباره خدم في أحد فروع الأمن السورية الرهيبة، أوتشير بعض التسريبات أن الرجل أدلى بشهادته إلى السلطات الالمانية واليونانية والتركية من قبلهما باعتباره مرّ من تلك البلدان خلال مسيرة اللجوء،

ومرة أخرى فعل حين وصل إلى ألمانيا وعند تقديم طلب اللجوء  قدم للسلطات المعنية فيها المعلومات التي يمتلكها وحسب درايته عن الفرع الذي كان يداوم فيه ، وان هذه الشهادات اُستخدمت لاحقاً كدليل ضده بعد أن لاحظت السلطات الألمانية أن إياد كان يعمل في الفرع نفسه الذي كان يعمل به الضابط أنور سلان، وكان هذا الأخير في ألمانيا  قيد الدراسة من قبل السلطات الألمانية

تبدو المسالة عصية على الفهم الأول بالنسبة لما حدث لاحقاً مع إياد الغريب، إذ كيف يمكن لشخض عاقل أن يرمي بنفسه إلى التهلكة ويدلي للالمان أو لغيرهم بأنه أجرم بحق الغير حين كان يعمل في أجهزة الأمن السوري ويطلب منهم أن يمنحوه حق اللجوء!! وهو مثل غيره يدرك أن قوانين الدول الغربية يمكنها أن تجرم وتحاكم أي شخص ارتكب انتهاكات كبيرة كانت أم صغيرة بحق المدنيين أينما كانوا، سابقاً أو لاحقاُ وأن مكان الجريمة وزمانها لا يؤخذان بعين الاعتبار.

أطلقت السلطات الألمانية سراح إياد الغريب بعد شهور على احتجازه لأيام قليلة ثم عاودت اعتقاله مرة أخرى في حالة تشير إلى ارتباك ما، فهل أطلقت السلطات الألمانية سراحه وسامحته بالنيابة عن أصحاب الحقوق ثم ندمت على ذلك؟. 

ومرة أخرى، لا يعترض السوريون الأحرار والعالم كله على تقديم القتلة الحقيقيين إلى المحاكم وسيكون ذلك جزءاً بسيطاً من حقوقهم الكثيرة، لكن أن نبدأ بمحاكمة من انشق عن نظام الأسد تاركاً ميزات جليلة كان يتمتع بها لقاء استمراره مع السلطة ونترك القاتل الحقيقي يواصل إجرامه بحجة عدم نضوج شروط محاسبته أو لعدم قدرتنا على ذلك، فهذا نوع من جلد الذات وشق صفوف الثورة وبعثرة أخرى لمسيرتها ونهجها.

شاهد أيضاً

ماذا بعد الانبهار بـ”حمـ.ـاس” والانهيار في إسـ.ـرائىل… مَن يمسك بزمام المبادرة ومَن يخشى الانزلاق؟

في حال اضطرت إدارة بايدن إليها – أن تثبت جديّة الخيارات العسكرية. هناك في سوريا يمكن قطع الطريق على برنامج إيران الإقليمي للامتداد من إيران إلى العراق وسوريا وإلى لبنان على الحدود مع إسرائيل وعلى البحر المتوسط. وهناك في سوريا يمكن للوسائل العسكرية الأميركية والأوروبية إسقاط الرئيس السوري الحليف لإيران، بشار الأسد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *