خاطرة تراثية يكتبها إبن الجزيرة السورية…

بقلم : عيسى الشيخ حسن.

أعترف أن كَلَفي بالمحشي جديد، ليس جديدًا تمامًا، ولكنّه جملة اعتراضية، أنشبت في سطرٍ مديد، بين الكُبّة، والمطبّق، والباميا، والبرغل، الأطعمة التي أفردت للطارئ الغريب مكانًا، لم نتركه من وقتها. ولم يكن المحشي غريبًا على العائلة، ولكنّ نفوري من الباذنجان ومشتقاته في صغري، جعل المحشي وجبة عابرة، أتحايل على الاستغناء عنها، بصحن خاثرٍ، أو كأس حليب خبأته لي امّي بعيدًا، أو أيّ شيء..ممّا يسدّ الرمق.
.
ليس المحشي مجرّد عبوات مؤقتة من خضار مجوّفة بعناية، محشوّة بالرزّ واللحم والبهارات. ولكنّه ثقافة، ثقافة مجتمعات الأنهار، في محاولتها الدؤوبة لتقديم غذاء كامل شهيّ ومتوافر. ولا أظنّ المحشي قد نال حقّه بوصفه طعامًا أثيرًا، كما فعل الأدب (فيما قرأت) مع الأطعمة الأخرى.
.
ليس المحشيّ شاويًّا وحسب، بل هو إحدى أعطيات الحداثة، بعدما كان مدينيًّا متعاليًا على العُربان المنتقلين من الوبر إلى المدر، وقد وجد في بيوتنا الطينيّة، ودفء العائلة، ما جعله يتكلّم لغةً أخرى، بعدما تحرّر من زبادي الفخّار، والملاعق، و”الشُّوَك”، وطاولات الطعام الأرستقراطيّة. عاد المحشيّ إلى واقعيته، أليفًا دافئًا بسيطًا غير مُتَكلّف، لا تنتظره أفواه النَّقَدة المتأفّفين، واضعة حبّة باذنجان في صحافٍ فاخرة، تعالجها بالشوكة والسكين، بلقمٍ صغيرة، ومجاملة في النهاية أنّ الطبيخ رائع.
.
ليس طعامًا عابرًا، وليس وليمة الضيف، بل هو طعام العائلة الدَّوْرِيّ، الذي يعني أنّه “عشاء منتظر”، وبخاصة في تلك الصُّيوف البعيدة، حين ترحل العائلات إلى مزارعها بعد إغلاق المدارس، فهناك لا تذهب السيدات إلى السوق لمفاصلة الباعة، وانتقاء الباذنجان. لا يحتاج الأمر غير عبوة زيت كبيرة، وكيس رزّ .
منذ الصباح -عند حوش الخضرة- تختار الأم لطبختها كيسًا -تقريبًا- من الباذنجان، وعندما يفرغن من أضاحي العمل في تعشيب القطن، أو الخضرة، يعمدن، جماعةً، إلى حفر الباذنجان، ومعه الكوسا أحيانًا، وحشوه بالرزّ المتبّل مع اللحم.
.
صيف 1992 كان المحاسب يمدح هذا النوع الجديد من الباذنجان في المحشي، قال بالحرف “طعمتو مثل الزبدة”، واستقرّت هذه الصورة في ذهني، وصرت ألحّ على أهلي لطبخ محشي الباذنجان الماسيّ، مستحضرًا طعمًا جديدًا فريدًا لذلك الباذنجان الغريب الذي افتقدته في الغربة هنا، ثم وجدته في باذنجان يأتي من بنغلاديش، ثمن الكيلو الواحد منه 10 ريالات، لا ينزل ريالًا واحدًا (3.3 دولار).
.
في ذلك الصيف كنت فلّاحًا أنزّل الخضرة عند الدّلَال عبد السلام الظاهر، قبيل شروق الشمس، مرّتين في الأسبوع، مرّة للبندورة، التي أجلب سحّارتها من محلّه، السحّارات الكبيرة ذات الرقم 22 كما أذكر، ومرّة للباذنجان. وكان فلّاحو الجزيرة قد تباروا في إنتاج ذلك الباذنجان الطويل بنوعيه الألماسي والأسود. ويحدث أن يكون المعروض أكثر من المطلوب، فتنزل أسعاره، وربّما لن تجد من يشتري. وفي تلك الأيام كان فلّاحو الخضرة عرضة لتقلبات السوق، والخسائر الكارثية، وكم من المرّات ألقيت صناديق البندورة وأكياس الباذنجان أرضًا أو في نهر جغجغ، لا تجد من يشتريها، وقد تُترك للمواشي. ثمّ ترتفع بجنون في الموسم المقبل لأنّ أغلب الفلاحين أعرضوا عن زراعتها.
.
يحضر المحشي على مائدة العشاء وجبة الشوايا الرئيسة، قبل أن يتزحزح قليلًا نحو الساعة الثانية ظهرًا، يحضر في صحن كبير مطنطر (ممتلئ كثيرًا) رفقة صحون كروم صغيرة، وملاعق، وخبز الصاج، وتتقدم نحوه أيدٍ يتناوبها الخشوع والنهم، الخشوع حين تلسع حبات الرزّ الساخنة كلّ مساحة الفم الذي أطبق على القضمة الساخنة، وبالأخصّ تلك المنطقة المغلقة بين سقف الحلق واللسان، وهي تقرأ نشرة اللذة المباشرة، وتقدم أخبارها العاجلة عن الطعوم المتخاصمة، المتمازجة، الهابطة، الصاعدة، المسترضاة بالمرق، المستغضبة بقطعة خيار، أو عِرش بصلٍ أخضر، فتثور من جديد حربُ الطعوم الضروس، الرزّ واللحم والبهارات والباذنجان الذي “طْعَمْتو مثل الزبدة” -وقد وافقته عليه منذ ذاك- ثمّ يغمس ملعقته بمرقة المحشي، لتنزلق اللقمة بسهولة ويسر، وربّما صنع دُرمًا (لفّة) من رقائق خبز الصاج، وقد لفّها بباذنجانة مستلقية وسط الصحن الذي بدأ يفقد توازنه، قطعةً بعد أخرى.
وبين خشوع العيون ونهم الأفواه، يكون الصحن المطنطر قد استُنفد تمامًا أو كاد. قبل أن تأتي الفزعة بصحنٍ أصغر لمن يريد متابعة تلك النشرة.
.
في الدوحة تزورنا جارتنا العراقية العجوز بعض الأحيان، وقد علّمتنا طبخ الدولمة (محشيّ متنوّع)، وربّما جاءتنا منها الطُّعمة (هدية الطعام) وإليها يرجع فضل تعرّفنا الدولْمة التي قرأت عنها في رواية قديمة لمعارض عراقي في دمشق، اسمها حفلة إعدام، أظنّه مهدي الراضي، ولكنّ أولادي ظلّوا يؤثرون المحشي الشاويّ، فيختارون عبوات الكوسا، فيما بقيت وفيًّا للباذنجان، عملًا بتلك الأمدوحة الشاويّة للباذنجان الذي “طعمتو مثل الزبدة” وكلّما لسعت الحشوة فمي ولساني، أغمضت عيني وتذكرت الدلّال عبد السلام الظاهر، وقد تجمّعنا حوله، نطمئن إلى ما بيع من بضائعنا، ومتذكرًا كلمات المحاسب، وقد جلس إلى طاولة صغيرة، وحوله أكياس الباذنجان مصفوفة بعناية في أكياس منسوجة من النايلون، وقد شُقّت بعناية من المنتصف، فاغرة الأفواه لتناسب الباذنجان الماسيّ، قبل أن يخترعوا له أكياس النايلون الشفّافة.
.
لم يكن أمر اللحم ضروريّا في القامشلي، إذ تتوافر أنواع من اللحم الرخيص، تكفل لأيّ عائلة شراء نصف كيلو أو ربع كيلو على الأقل، ولم تكن للرزّ تلك الأنواع الجديدة، مثل الـ”صن وايت” قصير الحبّة، وقد يكون محشي البرغل حلًّا تؤثره أذواق أخرى. كان أغلب العائلات إن لم يكن جميعها، تضع في الحسبان أن تجتمع على مائدة المحشيّ، وأن تتفقد الأمّ الغائب، وتبقي له حصّته إن تعذّر حضوره .
.
ولكن من يفوّت على نفسه عشاء العائلة الأثير؟!

شاهد أيضاً

11 هزة خفيفة في سورية وتركيا خلال 24 ساعة

أعلن المركز الوطني السوري للزلازل أن محطات الرصد لدى المركز سجلت 11 هزة خفيفة تراوحت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *