المرأة التي تحدّت الفقهاء والساسة!

كتب احمد الرمح في مركز”حرمون” للدراسات:

الحالة الحقوقية المتردية للمرأة في شرقنا البائس ليست إلا صناعة فقهية، صاغها سدنة الدين الموازي الذين سطوا على الدين الحنيف، وقدّموا تديّنًا مشوِّهًا له، كان للذكورية وتحالف الكهانة مع السياسة دور كبير في تأطيره في الذهنية الإسلامية. وبذلك؛ يمكننا القول بأن الانكسار الحادّ للمرأة حقوقيًا، في الثقافة والاجتماع والسياسة، هشّم إرادتها، حتى استكانت كثيرات منهنّ لهذا النير الذكوري، ولذلك فإن حقوق المرأة مسألة إنسانية لها دور كبير في الأزمة الحضارية التي يعيشها شرقنا البائس.

فالمرأة، على هذه الحال التي وصلت إليها من قهر وغمط لحقوقها، ليست نتاج الدين الحنيف، إنما نتيجة صياغة فقهية ذكورية قام بها سدنة الدين الموازي، كما بيّنت الباحثة في شؤون المرأة ريتا فرج، إذ قالت: “المرأة التي صنعها الفقه التقليدي -تعدد الزوجات، الحضانة، الميراث- بنى عدّته على منظومة أبويّة صلبة تجاه النساء، فهو لم يرَ في المرأة إلا صورة الجسد، في وقتٍ ساوى النصّ القرآني بين الرجال والنساء” ([1]).

ولقد أدركت هذا الكاتبة فاطمة المرنيسي، عندما ربطت ما بين التنوير والديمقراطية وتحرّر المرأة، فاعتبرت العدوانية الذكورية تجاه المرأة سياسةً منهجيةً، شوّهت سمعة الإسلام والمسلمين، فقالت: “التراث الذي يُحدّد عادة ببداية عصر التدوين (213ه) إلى زمن سقوط الأندلس، كان في مجمله إنتاجًا ذكوريًا، بما في ذلك تفاسير القرآن والسنّة، ولم يكن للمرأة أي مساهمة في إنتاج هذا التراث، الذي عطّل دورها في بناء المجتمع” ([2]).

أول حركة نسوية في التاريخ، حركة “سكينة”

المرأة عبر تاريخ الدولة الإسلامية لم تستسلم للفقه الذكوري، ولدينا إضاءات نسوية مهمة، ظهرت مبكرًا في التاريخ الإسلامي، تعاون سدنة الدين الموازي مع الاستبداد على طمسها! إذ فرضوا من خلال منابرهم المسجدية والتلفزيونية نمطًا ذكوريًا تجاهل هذه الإضاءات، التي لو تم البناء عليها، ما كان هذا حالنا وحال المرأة في شرقنا المتخلف اليوم.

فظاهرة مثل ظاهرة “غزالة الشيبانية” التي تولت سنة (76هـ) زعامة المعارضة والإمامة الكبرى، وكانت ملهمة الشعراء في قصائدهم السياسية، لم يُعتنَ بها، دراسيًا وبحثيًا! وكذلك ظاهرة “سكينة” التي نحن بصدد الحديث عنها، التي شكلت أول حركة نسوية ربما في التاريخ البشري، تُعدّ ظاهرة لافتة، وحالة إبداع نسوية، قلّ نظيرها في التاريخ الإنساني، إذ شكلت تلك الظاهرة تحدّيًا للفقه الذكوري، وعملت على قلب الثقافة القُرشية القبلية، التي صبغت التدين بصبغتها وعاداتها وتقاليدها، ولكن -مع الأسف- غيّبَ السدنةُ والساسةُ ظاهرةَ “سكينة”، كحركة نسوية، فلم يعد يتذكرها أحد، وعلى الحركة النسوية أن تواجه ذكورية سدنة الدين الموازي بفقه سكينة، فكما ألجمت فقهاءَ عصرها، تستطيع الحركة النسوية أن تستمد منها الحجة في إلجام السدنة والساسة، الذين ما انفكوا يكيلون التهم والشبهات للحركات النسوية المطالبة بحقوق المرأة.

من هي سُكينة؟

هي صاحبة أول حركة نسوية في التاريخ، تحدّت الفقهاء والساسة، إضافة إلى كونها ناقدة شعرية متميزة، كان يحتكم عندها شعراء عصرها، إنها حفيدة رسول الله من ابنته فاطمة، فهي ابنة الحسين بن علي بن أبي طالب، وهذا ما يُعطي لتميزها ورفضها للذكورية الفقهية والاستبداد طعمًا مختلفًا، شهدت مذبحة كربلاء، وكان عمرها آنذاك (14) عامًا، وكانت أول من تمرد على الإسلام السياسي، واحتقرت استبداده، ولم تذعن له، وعاشت معارِضةً سياسيةً، وأدركت، بوعيها السياسي، ألاعيب سدنة الدين الموازي، وفتاواهم الذكورية؛ فرفضتها وتمردت عليها، حتى باتت ظاهرة سياسية وفقهية واجتماعية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، واشتهرت بجمالها ونقدها اللاذع للساسة والفقهاء، حتى تركت في تاريخ الإسلام سُننًا لا يجرؤ عليها أعتى الفقهاء ([3]).

إذن؛ نحن أمام ظاهرة نسوية لا يستطيع ذكور الدين الموازي التشكيك في نسبها ولا في عقلها ولا في علمها إطلاقًا! وظاهرتها قريبة جدًا من عصر الرسالة.

سُكينة سياسيًا؟

لأنها حضرت مأساة أبيها، وعاصرت الاستبداد، ورضعت الثورية من ثدي أمّها (الرباب بنت امرئ القيس بن عدي)، زوجة الحسين، عاشت حياتها معارِضةً سياسية، إذ كانت تدخل المساجد، وتخطب بالناس مهاجمة السياسة الأموية، ولا تقوم بذلك ارتجالًا، إنما تخطط له مع مناصراتها ومناصريها، ورفضت بيعة أي خليفة من دون أن تخافهم، بل كانوا يخافونها، ويحاولون تجنّبها، بعد أن التفّ الناسُ حولها، وأعجبوا بها، “حيث كانت تجمع النسوة وتحضر خطبة الجمعة، فتجلس قبالة والي المدينة خالد بن عبد الملك، الذي يخطب الجمعة، فإذا شتمَ عليًّا على المنبر، وقفت له (قاطعته) وشتمته أمام المصلّين، ثم تأمر النسوة اللاتي معها بشتمه (أي تتظاهر ضده، بمصطلح اليوم)؛ فلا يجرؤ الوالي على الردّ عليها، فيأمر الشرطة بضرب النسوة اللاتي معها” ([4]).

صالون سكينة!

جعلت من منزلها صالونًا ثقافيًا وسياسيًا، تستقبل فيه الشعراء والمعارضة والوجهاء، لم يشكل لها تعدد زيجاتها الخمسة (وقيل ستة) أيّ حرج، ولقد أسهم الاستبداد والمؤرخون في طمس الهوية الشعرية لشعر سكينة السياسي، إذ كانت تُعدّ من كبار نقاد الشعر، ولها قصائد، تم تغييبها بفعل فاعل، وحول تلك المسألة، تقول “بنت الشاطئ”، متحدثة عن مؤامرة ذكورية بحق سكينة ومثيلاتها: “لم يصل لنا من أشعار سكينة غير شعر الرثاء، لأنّ الرواة أسقطوا أشعارها الأخرى، ليقصروا المجال الفني للمرأة على الرثاء! كما فعلوا ذلك مع الخنساء، وأمّها الرباب أيضًا التي كانت تكتب الشعر، ولها أبيات في رثاء زوجها” ([5]).

و”كانت تجالس الأجِلّة من رجال قريش، ويجتمع عندها الشعراء، وتصغي إلى المطربين -ومن بينهم المطرب البغدادي الشهير حينذاك حنين النصراني- وتسيطر على المجتمع الأدبي” ([6] فلم يكن “صالون” سكينة إلا ورشات تدريب للنسوة تعلمهنّ فيه حقوقهن، حتى لا تُهدر شخصية المرأة التي لها دور في الحياة السياسية والاجتماعية.

سكينة تتحدى الفقهاء!

تشكّلُ سكينةُ ظاهرةً فقهية بحد ذاتها، لو أننا درسناها بتمعّن، لاكتشفنا أن ما جعله مسلمو اليوم مُسَلّمَاتٍ دينية فقهية، ليس إلا اجتهادات لها في التاريخ ما يخالفها، وخصوصًا في شأن المرأة، وهذا ما يبيّنه فقه سكينة التي لم يجرؤ فقيه على أن يقول عنه باطل أو غير جائز، ولكن بتغييب ظاهرة سكينة الفقهية، غيبوا الجانب الآخر من الفقه النسوي، فاعتقد الناس أن ما قاله الفقهاء هو الجانب الوحيد والصحيح.

عندما نستعرض فقه سكينة التي لا يستطيع أحد التشكيك في قدراتها الفقهية، تتهافت أمامنا فتاوى ذكورية تخص المرأة، فقد كانت تشترط في عقد الزواج ألا تكون مطيعة لزوجها، بالمعنى الأنثوي السائد حتى يومنا هذا بين الزوج والزوجة، وتعلن أنها لن تفعل شيئًا إلا ما تقتنع به عقليًا، وتضع هذا الشرط في عقد الزواج! بمعنى آخر أنها كانت تجعل حقها بالنشوز شرطًا من شروط الزواج بها، كما اشترطت على من يتزوجها بأن لا يحقّ له الزواج عليها، بمعنى أنها رفضت تعدد الزوجات! حتى قالت عن ذلك فاطمة المرنيسي: “بهذا التمرد ضد السلطة الزواجية، عذبت كثيرًا ضمير الفقهاء ([7]).

تزوجت رجلًا، يدعى “زيد بن عمر العثمانى”، فوضعت بعقد الزواج كل شروطها التي نصّت على (ألا يمس امرأة سواها، ألا يحول بينها وبين ماله شيء، وألا يمنعها مخرجًا تريده). وقد كان الشرط الثاني، بسبب ما اشتهر به زوجها من البخل، حيث قيل إنه “أبخل قُرشي”. فإن أخلّ بأحد الشروط، فهي منه خلية. وقد أخل بالفعل بشروط العقد وكذب عليها، وضاجع جواريه، وعرفت سكينة بذلك، ولم تغفر له، ثم لجأت إلى القضاء ([8]).

رفعت ضده دعوى في القضاء، لمخالفته بنود عقد زواجهما، الذي اشترطت فيه سكينة الزواجَ الأحادي، ورفض التعددية الزوجية، ويقال إن تلك القضية كانت قضية ذاك العصر، إذ اندهش القاضي بالحجج التي قدّمتها سكينة ضد زوجها، في موضوعة الزواج الثاني، ومن المفارقات أن زوجة القاضي جاءت لتحضر مرافعة سكينة، وأن الخليفة آنذاك أرسل مبعوثًا له لينقل له وقائع مرافعة سكينة، وأمام دهشة القاضي لبنود عقد الزواج الذي وضعته سكينة بين يديه، لم يجد ما يرفض به دعوتها؛ فحكم لها بطلاقها من زوجها الذي أخلَّ بشروط العقد.

واللافت هنا مسائل عدة: هل يجرؤ فقيه أو قاضٍ اليوم أن يحكم بهذا الحكم؟ وهل يقبل قاضٍ أن يُكْتَب في العقد مثل هذه الشروط التي لو كانت باطلة لردّها فورًا؟ وهل يجرؤ فقيهٌ من فقهاء الدين الموازي على أن يجعل من عقد زواج سكينة أنموذجًا للزواج اليوم؟ وهو حقّ من حقوق المرأة.

تسريحة شَعْرِ سكينة؟

إن الذين أرّخوا لظاهرة سكينة “وصفوها بأنها الشخصية النسوية الأولى في المجتمع الحجازي على أيامها، ولو استعرنا أسلوب عصرنا، لقلنا إنها كانت نجم المجتمع…كانت فعلًا الشخصية الاجتماعية الأولى في عصرها”، على حد وصف “بنت الشاطئ” لشخصيتها ([9]).

“كانت سكينة أحسن الناس شَعرًا، وكانت تصفف جُمَّتها تصفيفًا لم يُرَ أحسن منه، حتى عُرف ذلك، وكانت الجُمَّة (التسريحة) تسمّى (السُكينية)، وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلًا جُمَّته (سكينية) جلده وحلقه” ([10]). بمعنى آخر كان الرجال يقلدون تسريحتها! والجُمَّة في المعجم مُجتمَعُ شَعْرِ الناصِية (الغُرة) وما ترامَى من شعر الرأْس على المَنكِبَيْن ([11]). وأكد وجود تلك التسريحة مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، في حديث له ([12]).

وعند الحديث عن تسريحة شعر سكينة التي كانت أشهر تسريحة في عصرها، تُطرح مسألة الحجاب، ولا نريد بحثها هنا، ولكن هذه الإشارة من تسريحة سكينة، تُشير إلى أن الجلباب شيء، والحجاب بمعنى غطاء الرأس الذي انتشر في عصر الصحوة الإسلامية حتى يومنا هذا شيءٌ آخر، ولكن المسألة ليست مدار بحثنا هذا، إنما هو تساؤل عرضي لأولي الألباب.

جنازة سكينة حدث تاريخي وفقهي؟

كانت سكينة -رضي الله عنها- متفردة ومتمردة حتى في جنازتها، فنظرًا لقوة شخصيتها، ومكانتها العلمية والأدبية، إضافة لكونها من بيت النبوة، عندما توفيت كانت هي ثاني حالة في التاريخ بعد رسول الله؛ إذ لم يُصَلِ على جثمانها إمامٌ، إنما صلى الناس عليها دون إمام، بمشهد لم يحدث قبل إلا مع جثمان النبي الكريم، حيث لم يجد الناس إمامًا كفؤًا يداني مقامها، حتى أمير المدينة آنذاك (خالد بن عبد الملك) لم يجرؤ على حضور جنازتها، “فأقبل القوم يصلّون عليها جمعًا جمعًا (بلا إمام) وينصرفون” ([13]).

تحرير المرأة شرط نهضوي!

إن تحرير المرأة لن يكون يسيرًا دون تحرير المجتمع من قيود التخلف ونمطية الذهنية الذكورية للمؤسسة الدينية والسياسية، التي لا تريد تغيير الواقع القائم، كي لا تتأثر مصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتقهر المرأة بفتاوى ذكورية لا تنتمي إلى جوهر الدين الحنيف. ولذلك يقول مالك بن نبي: إني لا أرى مشكلة المرأة بالشيء الذي يحله قلم كاتب في مقال أو في كتاب. ولكني أرى أن هذه المشكلة متعددة الجوانب، ولها في كل ناحية من نواحي المجتمع نصيب، فالمرأة كإنسان تشترك في كل نتاج إنساني، أو هكذا يجب أن تكون ([14]).

ويؤكد مالك بن نبي أنّ من شروط النهضة، اعتبار قضية المرأة من القضايا الجوهرية، وهذا يتطلب “حضور المرأة في المجتمع حضورًا بيِّنًا”، ثم يطرح اقتراحًا بأن الأمر يحتاج إلى إجماع لتسوية المسألة، ويقول: “القضية إذن من حيث إنها تتطلب التنفيذ هي في النهاية موقوفة على من بيده وسائل التنفيذ، ولا شك أن مؤتمرًا يحدث فيه ما يسميه الفقهاء بالإجماع هو الكفيل بهذا، فالقضية تتطلب بالضبط إجماعًا” ([15]). هذا الإجماع هو الاتفاق على أن حقوق المرأة وحريتها شرط من شروط النهضة، كما في مشروع “بن نبي” النهضوي.

ميراث المرأة العاملة

لقد قدّم داعية تحرر المرأة المفكر قاسم أمين حلولًا عدة لتحرر المرأة، واعتبر أن تعليمها وحده لا يكفي لتحررها، ولا بد من حصولها على تلك الحرية، عندئذ، سيتحرر نصف الشرق البائس المعطل والمكبل، نتيجة ثقافة ذكورية باتت عارًا على مجتمعاتنا في عصر المواطنة، ولذلك دعا “أمين” إلى الانتباه إلى أن حرية المرأة سببٌ رئيسٌ في النهضة، فقال: “الحرية أساس التقدم البشري، وحرية المرأة أساس كل الحريات الأخرى، فعندما تكون المرأة حرّة، يكون المواطن حرّا”. ومن أهم منازل الحرية العمل، الذي يجعلها مستقلة اقتصاديًا عن تبعية الرجل، وهذا ما أشار إليه قاسم أمين ([16]).

إن الاستقلال الاقتصادي للمرأة هو المعْوَل الأول لهدم معتقلها، وتحررها من نير الذكورية، وخلاصها من ثقافة مجتمع فاحش في ذكوريته، مقدّسٍ لتقاليده وأعرافه. ولذا نطرح هذه القضية لتنبيه النسوة على حقهن المهدور، نتيجة أعراف بالية، سمحت للذكور بالاستيلاء عليه.

في الدين الموازي، الرجل الذي تزوج امرأة وبنوا حياتهما معًا، بعد وفاته تأخذ الثُمن فقط من الميراث، وهذا ما يفعله معظم المسلمين، وهذا ظلمٌ وغمطٌ لحق المرأة العاملة، بذريعة أنّ هذا هو الشرع، ولقد افتروا على الله ورسوله! أما في الدين الحنيف، فإنْ توفي الرجل المتزوج من امرأة كانا قد بدأا حياتهما مع بعض، وكانت تعمل كمعلمة أو موظفة… إلخ، فتكون التركة كما يلي:

– تأخذ نصف الثروة، وهذا يسمى شرعًا “حق الكد والسعي”. وهذا ما قضى به عمر بن الخطاب، كما في حادثة “حبيبة بنت زريق”، وكانت امرأة نسّاجة، وكان زوجها (عمر بن الحارث) يتّجر بنسيجها حتى جمعا ثروة، ولما مات زوجها أخذ بنوها التركة، ولم يعطوها إلا الثُمن، فقاضتهم عند عمر، فحكم لها بنصف الثروة.

– ثم تأخذ المهر المؤجل وتُعادَل قيمته على قيمة الذهب آنذاك.

– إذا لم تكن قد أدت فريضة الحج، فيخرج مما تبقى من الوراثة تكلفة الحج لها.        

– أخيرًا تأخذ الثُمن. والله أعلم.

ولقد أفتى “ابن عرضون” قاضي مدينة “شفشاون” مفتي المالكية، عام 1020هـ، بوجوب قسمة ثروة الزوج التي اكتسبها منذ زواجه نصفين بين الرجل وبين زوجته، وأطلق عليه حق الكد والسعي.

آية: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)

أما ادعاء الذكورية الدينية بأن المرأة يجب أن تقرَّ في بيتها، ولا تخرج للعمل، فلقد ردّ عليه الإمام التنويري “محمد عبده” في تفسيره، وبيَّن أن التشاركية بين الرجل والمرأة في بناء المجتمع كله هي الحال الطبيعي، وأن إبعادها وتهميشها عن هذا الدور هو الانحراف والخلل، وأي خلل في تلك التشاركية سينعكس سلبًا على المجتمع، وهذا ما حصل لنا تمامًا، وسبب ذلك الخلل ذكورية سدنة الدين الموازي الذين ما زالوا يعيشون عقلية عصر “الحرملك”.

فأشار إلى أن الآية القرآنية القائلة: “(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) موجّهة صراحة إلى نساء النبي محمد ﷺ، وبما أنّه لا يوجد نصّ صريح في المسألة…. فللمكوث في المنزل، أو ما يعرف بـ (الخَدَر)، وفق قاسم أمين، مضار اجتماعية وشرور، فهو يمنع المرأة من أن تصبح كائنًا كاملًا، إذ إنّ المرأة لا تكون كاملة، ما لم تتصرف بنفسها، وتتمتع بالحرية التي منحتها إياها الشريعة والطبيعة، كما أنّ طبيعة الخَدَر نفسها تقوم على عدم ثقة الرجل في المرأة، فهو لا يحترمها، حين يقفل عليها الأبواب، لظنّه أنها ناقصة إنسانيًا، لقد جرّدها من مزاياها الإنسانية، وحصر وظيفتها في أمر واحد: تمتّعه بجسدها” ([17]).

ختامًا

يجب أن يدرك العقل الجمعي المتدين أن الفتوى نوعان: فتوى نصيّة وأخرى عُرفية، أما النصية فتبقى ما دامت علتها ومقاصدها باقية، وأما الُعرفية فتنتهي بانتهاء العُرف الذي كان سببًا باستحداثها، وهذا مبحث أصولي غاب عن أذهان فقهاء الدين الموازي، وقد أشار الماوردي في الفصل الأخير من كتابه الأحكام السلطانية إلى ذلك، إذ قال: “ينبغي أن نفرق بين الفتوى العرفية والفتوى الشرعية، العرفية قامت على عرف، والشرعية قامت على نص، ويطلق عليها الاجتهاد العرفي والاجتهاد الشرعي”.

فالتاريخ شيء والإسلام شيء آخر، فتاريخ المسلمين ليس دينًا، وعندما ننقد التاريخ، فنحن نبرّئ الإسلام، وإذا تمسكنا بالتاريخ فنحن نتهم الإسلام، وهنا خط الافتراق بين من يتعبّد بالتاريخ، ويتعبّد بالإسلام، كما يقول المفكر حسن بن فرحان المالكي.

[1] ـ حوار مع ريتا فرج: الفقه الأبوي لم يرَ في المرأة إلا الجسد. فرانس 24. https://bit.ly/3j8etth

[2] ـ – فاطمة المرنيسي من وراء حجاب السوسيولوجيا – العربي الجديد. https://bit.ly/30A7nXZ

[3] ـ اسم سكينة؛ أطلقته عليها أمها الرباب، وهو إنْ نُطِق بضم السين يعني الفتاة المرحة خفيفة الروح، وبفتحها تعنى الوداعة والطمأنينة. اشتهرت بجمالها، فكانت خليطًا من اللطف الطبيعي، والعقل النقدي، والفصاحة اللاذعة، والثورية الشجاعة. ورُوِي أن سَكينة هو لقبها لا اسمها وإن اسمها هو آمنة، كما في “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم” لابن الجوزي. دار الكتب العلمية. لبنان/ بيروت: ج 7. ص 175.

[4] ـ بنت الشاطئ: سيدات بيت النبوة؛ سكينة بنت الحسين. دار الهلال. مصر. ص:124.

[5] ـ المصدر السابق، ص 124.

[6] ـ المصدر السابق، ص:126.

[7] ـ راجع فاطمة المرنيسي: الحريم السياسي: النبي والنساء. دار الحصاد 1998.

[8] ـ أبو الفرج الأصفهاني: كتاب الأغاني. الناشر: دار الفكر. بيروت. الطبعة الثانية. تحقيق: سمير جابر. ج:16. ص:164.

[9] ـ بنت الشاطئ، مصدر سابق، ص:121.

[10] ـ أبو الفرج الأصفهاني، مصدر سابق، ج 14.

[11] ـ راجع معجم المعاني الجامع. مادة جمة.

[12] ـ الدكتور علي جمعة: تسريحة السيدة سكينة. https://bit.ly/3palfCA

[13] ـ ذكر الحادثة أبو فرج الأصفهاني في كتابه الأغاني عن جماعة بني هاشم؛ وسنّ هذا الأمر بعده الجعفرية؛ إذ لا إمام يصلي على جنازة من هو بيت النبوة. ج:16. ص:165.

[14] ـ مالك بن نبي: شروط النهضة. ترجمة: عبد الصبور شاهين، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ص: 118.

[15] ـ مالك بن نبي، مصدر سابق، ص 122.

[16] ـ قاسم أمين؛ تحولات في قراءة واقع المرأة – محمد جبريل – موقع حفريات https://bit.ly/30yz3fT

[17] ـ المرجع السابق.

ابمصدر : مركز ” حرمون ” للدراسات

شاهد أيضاً

حروب الصورة والوردة الإسرائيلية

لا حدود لمظاهر الانحياز الفاضح للرواية الإسرائيلية ولجيش الاحتلال الإسرائيلي لدى كبريات وسائل الإعلام الغربية المقروءة والمسموعة والمرئية على حدّ سواء؛ خاصة تلك التي تزعم عراقة في التأسيس والتقاليد والمهنية العالية (مثل الـBBC البريطانية)، والكفاءة التكنولوجية الفائقة في مختلف جوانب التغطية المباشرة أو عن بُعد (مثل الـCNN الأمريكية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *