ألمانيا وأوروبا ما بعد ميركل… أي قامة ستتمكن من حفظ التوازنات؟

ينشغل كثيرون بمعرفة اسم من سيخلف أنجيلا ميركل في قيادة ألمانيا وفي المستشارية بعد انتخابات 26 سبتمبر (أيلول) المقبل إذا فاز بها الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحلفاؤه، وعلى رأسهم الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا. غير أن السؤال الحقيقي الذي يجب التفكير فيه هو أي ألمانيا سنرى بعد 16 عاماً لهذه الزعيمة على رأس حكومة أكبر اقتصاد في أوروبا الغربية وقوة الدفع الأولى في الاتحاد الأوروبي؟

قد تختلف الآراء في السيدة التي ستبلغ السابعة والستين في 17 يوليو (تموز)، لكن ما يجمع عليه الألمان أنهم كانوا في الأعوام الستة عشر يعرفون أن لديهم قائداً قد يخطئ وقد يصيب إنما في كل الأحوال لا يخشى مواجهة الأزمات ونسج التوازنات. لذا يصعب على الألمان تخيل حكومة يقودها أي شخص آخر غير «موتّي».

لا حاجة للعودة إلى سيرة حياة السيدة التي ولدت في ألمانيا الغربية الرأسمالية وعاشت في ألمانيا الشرقية الشيوعية حيث حصلت على الدكتوراه في الكيمياء النوعية (ورفضت وظيفة عرضتها عليها الشرطة السرية «شتازي»). ففي العيش بين خطوط الحرب الباردة، تحت السقف الحديدي للحزب الشيوعي وفي كنف والد هو قسّ بروتستنتي لوثري، ورؤية جدار برلين يسقط عام 1989، ما يكفي لفهم الظروف التي تقدمت فيها أنجيلا دوروثي كازنر إلى واجهة المشهد السياسي.

وإذا كان من وصفٍ للمرحلة التي حكمت فيها ميركل، فإنها على الصعيد المحلي كانت عموماً مرحلة استقرار، وعلى الصعيد العالمي ذروة العولمة، كما كتب وزير خارجية ألمانيا سابقاً يوشكا فيشر، أو المرحلة التي فتحت فيها الصين بوابات التصدير إلى مختلف أنحاء العالم.

لكن الآن، بعد تطورات السنوات الأخيرة من حكم دونالد ترمب في الولايات المتحدة، وصعود الصين، وتحرّكات العضلات القوية لروسيا، وطبعاً ما سببته الجائحة من فرقة بين الأمم وعودة إلى التقوقع القومي، أصيبت جدران العولمة بتشققات كبيرة. ولا ننسى ما سببه أوروبياً خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، مع ما يعنيه ذلك من زيادة العبء على الثنائي الألماني – الفرنسي في كل ما يخصّ القارة العجوز.

تنتظر ألمانيا ما بعد ميركل تحديات هيكلية هائلة ستواجهها مع المفوضية الأوروبية والدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي، أولها النجاة من أتون جائحة «كوفيد – 19» صحياً ومن حيث التداعيات الاقتصادية التي ستتمظهر في مستقبل قريب ديوناً ضخمة وعجزاً هائلاً في ميزانيات الدول المتقدمة والناشئة والنامية سواء بسواء.

وسيكون على من يخلف ميركل، سواء كان خليفتها في زعامة الحزب أرمين لاشيت أو حليفه البافاري ماركوس زودر أو أي من خصومهما على الضفة الأخرى للسياسة الألمانية، أن يواجه الهجوم الاقتصادي الذي ستشنه الصين على العالم الجريح، لأنها الدولة المؤهلة الوحيدة للنهوض بسرعة ومواصلة النمو و«مساعدة» الآخرين، مساعدة لا بد أن يكون لها ثمن سياسي عاجلاً أو آجلاً. فكيف يمكن لألمانيا أن تقود خطة إنهاض أوروبية شاملة من دون الركون إلى الصين صوناً للسيادة الأوروبية وبما يحفظ لاقتصاد الاتحاد قوته التنافسية.

وسيكون عليه كذلك، ترتيب العلاقة بين ضفتي الأطلسي، ليس بين برلين وواشنطن فحسب، بل بين بروكسل وواشنطن أيضاً. ذلك أن الرئيس الأميركي جو بايدن وإن أبدى كل استعداد لإزالة ما شاب هذه العلاقة في عهد ترمب، سيعيد طرح الأسئلة عن التوازن في التبادلات التجارية، وتغذية ميزانية حلف شمال الأطلسي (كرر بايدن موقف ترمب داعياً أوروبا إلى تعزيز الإنفاق العسكري وتحمل المزيد من المسؤولية في الدفاع والأمن)، والدور الروسي المقلق في أوروبا، خصوصاً مشروع أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» الذي لا تزال ألمانيا متمسكة به على الرغم من «النصائح» والتمنيات الأميركية. وهنا لا بد من الإشارة أيضاً، إلى أن الصين هي أكبر سوق للصادرات الألمانية من سيارات وسواها، وبالتالي هل تستطيع برلين أن تتخذ من بكين موقفاً متشدداً يُرضي واشنطن؟

ليس من شك في أن تقاعد ميركل سيجعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أهم زعيم في أوروبا. وهذا يعني صعوبة أكبر في ترتيب العلاقات مع الولايات المتحدة، وزيادة الشكوك حول فاعلية حلف شمال الأطلسي، وموقفا تصادمياً تجاه تركيا رجب طيب إردوغان، ونهجاً أكثر تدخلاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. باختصار، هذا يعني تغييراً كبيراً في القيادة الأوروبية بشأن دور الاتحاد الأوروبي في العالم.

وبالتالي هل سيبرز في ألمانيا من يقف مع ماكرون على قدم المساواة في معالجة الملفات، علماً أن ميركل كانت تقف أمام الرئيس الفرنسي وليس إلى جانبه.

الخلاصة أن على ألمانيا وأوروبا أن تتعلما العيش من دون وجود أنجيلا ميركل في سدّة القيادة. فمن يملك القامة التي تقدر على مواجهة كل التحديات الآتية من كل حدب وصوب وإبقاء القارة مستقرة وسط الرياح الحارة التي تهب من الجنوب (المتوسطي)، والأمطار التي تأتي من الغرب (الأطلسي)، والصقيع الذي يزحف من الشرق (السيبيري).

… في النهاية تذكير بهذه الواقعة:

لم تكن أنجيلا ميركل تخطط للترشح لولاية رابعة لترؤس الحكومة الألمانية. وما غيّر رأيها كان صدمة فوز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.

بعد ثمانية أيام من تلك الانتخابات، جاء الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما إلى برلين ليودعها. ويقال إنه ناشدها خلال العشاء الترشح مجدداً لأنها الزعيم الوحيد القادر على توحيد الغرب والعالم… بعد أربعة أيام من ذلك، أعلنت ميركل ترشحها وخوضها الانتخابات.

شاهد أيضاً

الليلة الليلاء على غزة المحاصرة

بعد قصف كثيف مارسته قوات الاحتلال الإسرائيلي على غزة طيلة أسابيع ثلاث، كثفت هذه القوات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *