إمكانية تحقيق العدالة الانتقالية في الحالة السورية





موسى الهايس 
محامي وباحث سورية 

” لبنة أساسية لبناء السلام المستدام في البلدان التي تشهد نزاعات والتي وصلت إلى مرحلة ما بعد النزاع. العدالة الانتقالية متجذرة في المساءلة وجبر الضرر وتعترف بكرامة الضحايا كمواطنين وكبشر ، أما  تجاهل الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قد يكون مهربا سهلا ولكنه يدمر القيم التي يبنى عليها أي مجتمع لائق” 

الجزء (1)
تعرف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة القواعد والاليات والتدابير القضائية والغير قضائية التي يتم بها معالجة المشاكل  الناتجة عن وصول أنظمة جديدة للسلطة ومواجهتها للانتهاكات الجسيمة .
وفي الحالة السورية  يمكن أن تختصر بأنها الجهة التي تعنى بمعالجة  المظالم التي ارتُكبت في فترة نظام حكم ورئاسة سابقة كجزء من عملية التغيير السياسي  وتتضمّن الملاحقات القضائية ولجان الحقيقة وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات وهي ليست بديلا عن العدالة التقليدية .
وبغض النظرعن تاريخ بداية الأخذ بمفهوم العدالة الانتقالية كآلية فهو أصبح مفهوما ملازما ومرتبطا ارتباطا وثيقا بمراحل التحول الديموقراطي للمجتمعات المعاصرة  التي تتحول من الاستبداد والديكتاتورية الى فضاء الديمقراطية والحرية بحكم حاجة المجتمعات للاستقرار والبناء بعد أن انهكتها الحروب وفرقتها . إذ أن العدالة الانتقالية هي السبيل للولوج الى المرحلة الجديدة التي يحترم فيها الانسان بحكم سيادة القانون و بفضل القضاء النزيه والمستقل خاصة في المجتمعات التي اتسم التغيير فيها بالطابع الثوري إذ يعد  فساد  القضاء وتبعيته  للنظم المستبدة وعدم استقلاليته أحد اهم اسباب قيام الثورات كما هو الامر في الحالة السورية وبلدان الربيع العربي 
لذا تاتي العدالة الانتقالية لتكون اللبنة الأولى التي يتم من خلالها إرساء الاسس السليمة وتهيئة المناخ المناسب لانطلاق عجلة العدالة التقليدية لما للعدالة الانتقالية من مرونه وسرعة في معالجة القضايا الاجتماعية وجبر الضرروردم الهوة التي سببتها الحروب خلال سنين النزاع بحكم أنّه ليس من الضرورة أن تعتمد على القوانين والاجراءات والتقاليد المعمول بها  مستفيدة من الرغبة الاجتماعية  بمحو آثار الماضي وتنقية النفوس ولا تشذ المجتمعات العربية المتطلعة نحو التقدم والتنمية والديمقراطية والاستقرار عن هذه القاعدة  فالحرب هي الحالة الاستثنائية  ومحو آثارها يتطلب القيام باجراء استثنائي يخفف العبء عن العدالة التقليدية التي غالبا مايكون الفصل فيها بحكم  ينصب على الامور المادية ولا يزيل الاثارالمعنوية وربما يعزز الالم المعنوي وهو ما يتوخى تفاديه ويعول على  مؤسسة العدالة الانتقالية القيام به .  وبالرغم من تعدد التجارب العالمية التي أخذت بمفهوم العدالة الانتقالية  كتجربة تشيلي عام 1990 وغواتيمالا عام 1994 وبولندا عام 1997 وسيراليون عام 1990 واندونيسيا والارجنتين.
إلا أن أكثرالتجارب حضورا في منطقتنا هي تجربتي المغرب عام 1994 وجنوب افريقيا عام 1994  كتجارب ناجحة وتجربة العراق كأحدالتجارب التي شابها الفشل في الكثير من جوانبها وجميعها  تجارب جديرة بالدراسة والاهتمام والاستفادة منهما في الكثيرمن النواحي مع الاخذ بعين الاعتبار أن لكل حالة خصوصيتها التي تتلائم والقوانين والأعراف الاجتماعية التي تحكم كل مجتمع على حده لكن يبقى العنـصرالمـشترك بـين جميع التجـارب يتمثـل فـي معرفـة الحقيقـة . حقيقـة الانتهاكـات وحقيقة المسئوليات.
مقومات العدالة الانتقالية وضروراتها
كل المقومات الاساسية لتطبيق العدالة الانتقالية متوفرة بعد سقوط النظام بل يجب أن يفرد لها مساحة واسعة وأن تكون الإنجازالأول الذي يلي عملية الانتقال السياسي والبدأ بوضع ركائز التغيير المنشود الذي هو هدف الثورة . من حيث أن سني الحرب التي مضت وماحملته من آلام يحتم توفرالإرادة لدى جميع الاطراف من سلطة سياسية أيا كان تكوينها ومؤسسات المجنمع المدني من منظمات ونقابات  للبدأ  بتحــضيرات العمليــة الانتقاليــة فــور ســقوط النظــام بحيــث يــتم تــشكيل لجنــة تحــضيرية للإعــداد للمرحلـــة الانتقاليـــة من أجل توطيــد الــسلم الأهلـــي واقامـــة دولــة المواطنة التي تسمح بمشاركة مختلف القوى المجتمعية في صنع القرار . وبالتالي لابد من تعزيز هذه الإرادة بقانون للمرحلة الانتقالية.
صلاحيات هيئة تجسيد العدالة الانتقالية

ينظم تشكيل هيئة خاصة مستقلة لاتحل محل القضاء العادي بل تعمل وفق قانون أساسي خاص بها يحدد كيفية تشكيلها واختيارأعضائها وحصانتهم والأصول والإجراءات التي تتبعها ويحدد مدتها وكيفية صدورقراراتها و ينظم آليةعملها من سماع الافادات والشهود وإمكانية حمايتهم  . وتحديد وتعريف ضحايا الانتهاكات الذين يتوجه إليهم عملها ويشملهم من قتلى وجرحى ومعاقين ومختفين ومعتقلين ومفقودين ويحدد نطاق أعمالها موضوعيا وزمنيا على أن ذلك يكون متزامنا مع حزمة من القوانين التي تتفادى مايعرقل مهامها كالمبدأ القانوني  “عدم رجعية القوانين ” وعدم سقوط  جرائم الانتهاكات بالتقادم . ومع أهمية تشكيل أعضاء الهيئة من القضاة بحكم غلبة الطابع الحقوقي على عملها إلا أن ذلك يجب أن لايحول دون رفدها بأصحاب الخبرة  كما ونوعا بحكم المهام التي تتصدى لها  فلابد من خبراء أمن وسياسة وعلماء نفس وتاريخ ولابد من وجود العنصر النسائي بحكم معالجة قضايا ذات طبيعةخاصة بالنساء كالاغتصاب والتحرش ..وفي كل الأحوال ضرورة توفر الدراية الكافية بمفهوم العدالة الانتقالية في أعضاء الهيئة وذلك من خلال إخضاعهم لدورات إعداد وتدريب وهذا ما يدعونا الى القول بضرورة وجود جيل الشباب المؤهل في تشكيلاتها ولجانها .ولتجنب تسييس الهيئة أو تشكيلها بأسلوب المحاصصة السياسية من الأفضل أن يكون أعضاءها من المنظمات الحقوقية وهيئات المجتمع المدني والشخصيات الأكاديمية المستقلة ولا غضاضة من الاستعانة بخبرات دولية إذا اقتضت الضرورة .كما يفترض تمتع الهيئة بميزانية مستقلة تجنبا للضغط والابتزاز.
ومن حيث أن المحاســبة عــن الانتهاكــات لايمكن أن تحصل بشكل انتقائي كأن يحاكم بــضعة أشــخاص في مرحلة معينة ويتم السكوت عن الآخرين سيما مع وجود كم هائل من الانتهاكات الممنهجة من دولة مارست العنف ضد مواطنيها وحرمتهم من أبسط الحقوق وأغلقت بوجههم أبواب المساعدة بحكم أنها تملك القضاء والشرطة والاعلام  .  فالعدالــة الانتقاليــة مــسارا أوســع يمتد ليشمل محاكمة نظام أو منظومة عرفت بالتسلط ويعالج مـا خلفتـه مــن تركــة انتهاكــات جــسيمة ويستكــشف الحقيقــة ويجبــر الــضرر للــضحايا وذويهــم ويــوفر ضـــمانات لعــدم تكـــرارمــا حــدث مــن خــلال إصــلاح مؤســـسي جــاد بغــرض الوصـول إلـى مجتمـع أو منـاخ سياسـي ديمقراطي يخـضع فيـه كـل مـن المـواطن والمؤسسات لسيادة القانون .وعدم الانتقائية هذا يضعنا أمام تساؤل هام هو كيفية تناول الحالة السورية زمنيا نظرا لطول مرحلة الاستبداد التي دامت لعقود . والإجابة هي تقسيم الحالة السورية الى ثلاث مراحل  .
المرحلة الاولى تبدأ من عهد الوحدة بين سوريا ومصر مرورا بمرحلة وصول نظام حزب البعث للسلطة في آذارعام 1963 وما رافقها من قوانين وانتهاكات جائرة طالت الملكية الفردية وشكلت إعتداءاعليها بزعم تطبيق النظام الاشتراكي وهوماعرف بقوانين التأميم  والاصلاح الزراعي المرحلة الثانية تبدأ من انقلاب حافظ اسد 1970 المؤسس لنظام الاستبداد الحالي وما صاحبة من قبضة حديدية والغاء الحياة السياسية والتنكيل بالمعارضين وأحداث حماة ومجازرها عام 1982 وماتبعه من اعتداءات على الاملاك الخاصة وانتفاضة الاكراد عام 2004 وحتى قيام الثورة السورية .
المرحلة الثالثة : وهي الممتدة منذ بداية الثورة السورية في آذارعام 2011 وحتى إسقاط  نظام الاستبداد .

وعليه ووفق هذا التقسيم وبحكم تعدد مراحل الانتهاك وطول فترة الاستبداد وبحكم أن أحداث المرحلة الاخيرة هي الماثلة أمامنا وحجم الجرائم المرتكبة خلالها ما يجعلها تأخذ اولوية  في هذا البحث بالمقارنة مع ماسبقها وتقدمها على بقية المظلوميات على أن يترك أمر معالجة باقي المظالم وفق آلية يتم الاشارة اليها في القانون المنظم  لمبدأ العدالة الانتقالية المأمول .آخذين بعين الاعتبار أن مرتكزات العدالة لاتقتصرعلى نظام الاستبداد الذي كان قائما بل تشمل أطراف النزاع  في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام  وأصبحت تحت سيطرت الفصائل وما رافق ذلك من مظالم وتأسيس مايسمى بالقضاء الشرعي والفصائلي وماصدرعنه من أحكام تفتقد للمعايير والاصول والمواثيق الحقوقية والانسانية كما أنه لابد من الأخذ بعين الإعتبار وتلافيا للنقص في النظام الاساسي الناظم لعمل الهيئة المأمولة  مايمكن أن تصطدم  به لجان الكشف عن الحقيقة في معرض قيامها بعملها بانتهاكات حصلت من ميليشيات خارج حدود الدولة السورية أو مايطلق عليه “الولاية المكانية ” أوانتهاكات قامت بها دول تدخلت بالشان السوري نظرا لكثرة التدخلات على الأرض السوريا الأمر الذي يستدعي أن تلحظ هذا الاشكالية بامكانية التعاون مع النائب العام لمحكمة الجنايات الدولية والانتربول الدولي من خلال تحويل الملف أو حفظ التحقيقات أو دعوة أطراف دولية ومنظمات أممية محايدة  للوقوف على التحقيقات لإجراء المقتضى القانوني الدولي . وتبقى أكثر التجارب نجاحا من وجهة نظري وأوفرها حظا وصلاحية  للإستهداء بها في الحالة السورية التجربة المغربية  التي توجت ب هيئة التحكيم المستقلة لضحايا الاخفاء القسري و” هيئة الإنصاف والمصالحة ” ولجنـة الحقيقـة والمـصالحة فـي تجربة جنـوب إفريقيـا .على ألا تغيب عنا سلبيات وإخفاقات العدالة الانتقالية في الحالة العراقية تفاديا من الوقوع في مطباتها

شاهد أيضاً

نقاش سوري حول دعم فلسطين؟!

د. مروان قبلان لم أتوقّع أن يأتي يومٌ يضطر فيه المرء إلى خوض نقاش بشأن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *