إسهامات العلماء العرب والمسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية

الأستاذ الدكتور محمود الحمزة

كبير باحثين علميين (سابق) في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا

التابع لأكاديمية العلوم الروسية- موسكو 
موسكو –
alhamza.mahmoud@gmail.com

مقدمة لا بد منها:  

عند دراستنا للحضارة التي ازدهرت في القرون 8-16 في ظل الدولة العربية الإسلامية لا بد من  توضيح بعض المصطلحات:

1- إن كلمة ” مسلم ” تعني كل من أعتنق الإسلام بغض النظر عن قوميته وجنسيته. أي هناك علماء مسلمون ليسوا عرباً، كما أن هناك علماء عرب وغير عرب ليسوا بمسلمين ، ساهموا جميعاً في بناء الحضارة الإسلامية.

2- إن كلمة ” عرب” لا تعني المنحدرين من العرق العدناني أو القحطاني فحسب ، إنما تشتمل في هذا البحث على كل من نطق أو تثقف بالعربية . وعندما نقول العلماء العرب والمسلمين نقصد كل العلماء الذين كتبوا باللغة العربية وعاشوا في ظل الدولة العربية الإسلامية . ولو كانت هناك جوازات سفر لحملوا الجواز العربي. لذلك نسميهم علماء عرب لأن ثقافتهم عربية بغض النظر عن جنسيتهم الأصلية . انظروا إلى أمريكا فيها علماء من جنسيات مختلفة  ( عرب- ألمان – روس وغيرهم ) ولكنهم يعتبرون أمريكان لأنهم يحملون الجواز الأمريكي ولا يمثل هذا انتقاص من انتمائهم الأصلي لقومية ما بل واقع الحال هو الذي يفرض ذلك .

  1. حول تأريخ العلم العربي بمنهج جديد  (رؤية د. رشدي راشد):

الحديث عن التراث العلمي العربي عادة ما يتشعب ويطول وهناك جدل دائر منذ أكثر من نصف قرن أثاره المثقفون العرب والمسلمين حول التراث العلمي كإحدى وسائل التجديد.  ونطرح هنا سؤال: لماذا العودة إلى الماضي الذي انطوت صفحاته؟ لماذا لا نهتم بالحاضر والمستقبل؟. أسئلة مشروعة ولكن البحث عن  الجذور والأصالة لا يعني بأي شكل من الأشكال التبجح بالماضي أو ربطه بعوامل قومية أو دينية بحتة. وكذلك لا يعني إهمال الحاضر وعدم التفكير بالمستقبل.

 ولتوضيح الصورة بشكل أدق نعود إلى الأسباب الحقيقية لظهور الاهتمام بتاريخ العلوم العربية والإسلامية. بدأ الاهتمام بتاريخ العلوم مع ظهور فلسفة التنوير في أوروبا في القرن 18 م. ففي فرنسا طرحت لأول مرة أفكار عظيمة حول القديم والحديث واحتاجت فلسفة التنوير لتعريف الحداثة. فقد أصبح ينظر إلى مفهوم التقدم المستمر للحقائق أو التراكم المستمر لها (د. راشد) وإلى التقدم المستمر للإنسانية مأخوذة كعقل واحد أو كشخص واحد (ومنهم الفيلسوف الفرنسي كوندرسيه الذي تحدث عن التقدم الذهني الإنساني). وهنا يظهر تمجيد العقل الإنساني بغض النظر عن اللغة أو العرق أو الدين. وطرح فلاسفة التنوير مهمة دراسة الفترات المتعاقبة والتطور الذهني خلال تلك الفترات. ولكي يتم رسم لوحة متكاملة لتطور الفكر الإنساني لا بد من دراسة جميع مراحل تطوره وهنا وجب التعمق في التراث العلمي العربي – كما يشير د. راشد. وعلى يدي  كوندرسيه الفرنسي ظهر العلم العربي لأول مرة كإحدى فترات التاريخ المهمة. ومن يومئذ لم ينقطع اهتمام فلاسفة العلوم ومؤرخيها بالعلم العربي.  وقد رأى بعض المؤرخين أهمية العلم العربي بأن ظهر في فترة سيطرت فيها الخرافات في أوروبا ولذلك بدأت بحوث مهمة في تاريخ العلم ومنها في تاريخ الرياضيات والطب والفلك. وكانت صورة العلم العربي مشرفة في هذه الفترة. ولكن فقر المعلومات وصعوبة التعرف على العلم العربي بسبب قلة المخطوطات العربية التي درست، وبالتالي فقد اعتمدوا على الترجمات اللاتينية للمخطوطات العربية، أي أن مؤرخي العلم  في تلك الفترة لم يتعاملوا مباشرة مع المخطوطات العربية.

 ولكن ظهور مدرسة الفلسفة الرومانسية الألمانية وعلى رأسها ماكس مولر وغيرهم ترك اثراً كبيراً في دفع الاهتمام بتاريخ العلوم والتي استفاد منها العلم العربي في البداية ثم أصبح من ضحاياها لاحقاً (انظر محاضرة د. راشد). وجرى التمييز بين الأجناس حسب اللغات. فاللغات الآرية صالحة– برأي أصحاب الفلسفة الرومانسية –  كعقلية علمية فلسفية أما اللغات السامية فتصلح لذهن ديني شعري فقط. وبالتالي انتشرت فكرة العبقرية اليونانية أو الأوروبية وأن العلم ظاهرة أوروبية صرفة. ولكن الرجوع إلى النصوص اليونانية أجبر المؤرخين العودة إلى النصوص العربية. التي حفظت فيها العديد من المخطوطات اليونانية والتي فقدت في أصلها اليوناني مثل كتاب ديوفنطس في المسائل العددية (7 كتب باليونانية و 4 بالعربية) وكتاب أبولونيوس في المخروطات (4 كتب باليونانية و3 بالعربية). واستمرت تلك النظرة العنصرية أو العقائدية تجاه العلم العربي على مدى قرنين (19 – 20) وبقيت آثارها حتى اليوم.

وللأسف لوحظت ظاهرة مؤسفة في أعمال حتى كبار مؤرخي العلم مثل كارا دي فو الفرنسي الذي لم يتمكن من رؤية ما كتبه نصير الدين الطوسي في كتابه “التذكرة النصيرية” حول نظام هيئة جديد (نظام فلكي) مخالف لنظام بطلميوس الوارد في كتابه “المجسطي”. إلى أن جاء  نيجيباور الأمريكي لينتبه لهذا الاكتشاف العظيم لنصير الدين الطوسي.

لكن الواقع أصبح يفرض نفسه وبدأ اهتمام واسع بالعلم العربي. وتميز العلم العربي بصفة جديدة لم تتوفر في أي علم آخر قبله وهي صفة العالمية.

فالعلم العربي عالمي بمنابعه ومصادره وهو عالمي بتمدداته وتطوراته. فمصادره هي الهلنستية والسنسكريتية والسريانية والفارسية وكان لهذا التنوع تأثير حاسم في صياغة ملامح العلم العربي والتي تمثلت بشكل خاص في انصهار تلك العلوم تحت قبة الحضارة الإسلامية ( راشد). وقد كان الهدف من ترجمة العلوم القديمة إلى العربية هو متابعة البحث بنشاط وحماس، علاوة على تلقيه الدعم الكبير من قبل السلطة السياسية آنذاك. وتكونت مدارس علمية كاملة مثل مدرسة حنين بن اسحق وابنه وأهله، ومدرسة بني موسى وتلاميذهم مثل ثابت بن قرة ومدرسة قسطا بن لوقا والمراصد الفلكية الكبرى التي تأسست وتبلورت حولها مكتبات علمية ضخمة لغتها الأساسية هي العربية – لغة العلم العالمية لعدة قرون. ومثال تلك المراكز مرصد مراغة الذي أشرف على تأسيسه نصير الدين الطوسي (ق 13) في عهد هولاكو. فقد كان الطوسي يستخدم الأموال التي يغدقها عليه الحاكم المغولي بسخاء، في شراء الكتب العلمية وصناعة الأجهزة وغير ذلك بما يخدم العلم والبحث العلمي. ويقال أن عدد الكتب في مكتبة المرص وصل إلى 400000 كتاب.

لقد تفاعلت التقاليد العلمية المختلفة لتنتج علوماً ومناهج جديدة مثل الجبر والاسقاطات الهندسية وعلم المناظر وحساب المثلثات وغيره. وكان للمجتمع والمدينة الإسلامية دوراً مهماً في انبثاق تلك الظاهرة التاريخية الجديدة وهي العلم العربي.

وقد أشار راشد إلى أهمية الممارسات الاجتماعية للعلماء  وأهمها:

التنقل والسفر الذي أصبح وسيلة للتعلم والتعليم. وظاهرة السفر في نطاق الدولة العربية الإسلامية من حدود الصين إلى أسبانيا لم يشهد لها التاريخ مثيلاً (ففي عهد الاسكندرية مثلاً كانت ظاهرة تنقل العلماء موجودة ولكنها لم تكن بتلك الأبعاد).

المراسلات العلمية والتي شملت كل حقول المعرفة مثل مراسلات القوهي والصابي ومراسلات السيجزي مع رياضيي الري وخراسان ومراسلة شرف الدين الطوسي مع رئيس نظامية بغداد.

وخلاصة ذلك أنه حدثت تغيرات هائلة. فالعلم العربي تقدم محاطاً بموكبة من التحولات وتجددت العلاقات بين التقاليد العلمية الموروثة ولم تعد على ما كانت عليه وتغيرت محتويات المكتبة العلمية وامكانياتها. وتوحدت لغة العلم وزادت كثيراً تنقلات العلماء ومراسلاتهم.

ويرى راشد بأن النظرة العقائدية التي سادت في أوروبا لقرون طويلة أفقدت العلم طابعه العالمي الذي تميز به العلم العربي. واعتبروا في أوروبا علوم القرنين السادس عشر والسابع عشر هي المقياس الذي تقاس به كل العلوم ولم يكونوا يعرفون بأن تلك العلوم اعتمدت على العلوم العربية وذهبوا إلى أكثر من ذلك بأن اعتبروا تلك العلوم ثورة في التاريخ وأنها بدأت من الصفر أي اعتمدت فقط على العلم الأوروبي المكتوب باللاتينية وكأن علماً لم يسبقه.

وهذه كارثة في تاريخ العلوم فقد سادت تلك النظرة نتيجة جهل أوروبا أو تجاهلها للعلوم العربية التي قطعت أشواطاً متقدمة جداً في الاكتشافات الجديدة. ويؤكد راشد بأن ذلك التعالي الأوروبي لم يكن ممكناً لولا الجهل بأعمال مدرسة مراغة في علم الهيئة ومدرسة الخيام الجبرية وشرف الدين الطوسي في الهندسة التحليلية وكتابات بني موسى وثابت بن قرة في التحليل الرياضي ورسائل وكتب ابن سهل وابن الهيثم في المناظر وغيرهم الكثير. والحقيقة التي كان عليهم معرفتها هي: إن لم تعرف ما فعله العلم العربي لن تفهم ما تم قبله وما تم بعده.

ويؤكد راشد بأن إعطاء العلم العربي موقعه الصحيح لا يعني الانتقاص من أهمية مكتشفات ديكارت في الهندسة التحليلية وفيرما في نظرية الأعداد وكوبرنيكس في علم الفلك وغاليلو في علم الحركة. ويورد مثالاً على نظرية عمر الخيام (ق 12) في الهندسة الجبرية والتي تنص على حل المعادلات التكعيبية بواسطة القطوع المخروطية. أما الجديد عند ديكارت فهو دراسة المنحنيات بالمعادلات الجبرية. ولكن في أوروبا عندما درسوا أعمال ديكارت اعتقدوا أنه استفاد من  أعمال أبولونيوس (ق 2 ق.م.) في القطوع المخروطية ولم يعتبروا أن أحداً جاء بعده ودرس هذه المواضيع. وبالتالي حدث خلط بين ما هو معروف قبل ديكارت وما هو الجديد عنده. إن في ذلك إساءة لسمعة ديكارت العلمية ومكانته في تاريخ العلم.

ويصل راشد إلى استنتاج مفاده أن الاهتمام الجدي والموضوعي بتاريخ العلم العربي لا بد منه لتحقق ثلاث مهمات: لفتح الطريق أمام فهم حقيقي لتاريخ العلم الكلاسيكي  (ق 16-17 م) أو للعلم  في القرون 9-17، ولتحديد تاريخ العلوم عامة لإعادة رسم الصورة التي شوهتها النظرات الإيديولوجية أو العقائدية. وأخيراً لمعرفة الثقافة العربية الإسلامية حق المعرفة بإعادة ما كان من أبعادها وهو البعد العقلي العلمي. فالتراث الإسلامي لم يكن لغة وديناً وأدباً وحسب بل كان أيضاً علوماً وفلسفة ومنطقاً.  وكانت أصالة هذا التراث في عالميته وانفتاحه.

وهنا يطرح سؤال نفسه: على ماذا يجب أن يركز الباحث في تاريخ العلوم العربية؟ يؤكد راشد على ضرورة التفريق بين سرد الوقائع وبين كيفية بناء النظريات. فإن لم يتعرض المؤرخ إلى التقنيات التي استخدمها العلماء وكيفية تطورها فإن لا قيمة لعملهم . أي أن تاريخ العلوم ليس تأريخاً بالمعنى الخاص بل هو علم قائم بذاته ومهمته الكشف عن تاريخ النظريات العلمية وتكونها وعن تبلور أفكار العلماء وتقدير اسهاماتهم مقارنة بمن سبقوهم ومدى تأثيرهم على من أتوا بعدهم. إن تاريخ العلوم هو علم له مقوماته وله منهجه العلمي. فالمستشرقون الذين كتبوا في تاريخ العلوم العربية منهم من حاول غرس بعض الأفكار بتركيزه على جوانب معينة من التاريخ كأن روجوا لفكرة ان العلم هو ظاهرة عربية أو إسلامية أي حاولا ربطها بالجانب القومي أو الديني لكي يبرروا أفكارهم العقائدية حول غربية العلوم. أو روجوا لفكرة أن العلم العربي انهار منذ القرن الرابع عشر مثلاً. والحقيقة هي أن قلة الاطلاع على المخطوطات العربية هي السبب في عدم اكتشاف ما قدمه العلماء العرب في القرون الخامس عشر وحتى السابع عشر وخاصة في مجال الفلك (مرصد أوغ بك في سمرقند وغيره).

2)  أهمية دراسة تاريخ الرياضيات :

       تبدأ عوامل النهضة عند أي شعب من الشعوب بالاهتمام بالماضي وكشف حقائقه الحسنة وربطها بحاضره . ومما لا شك فيه أن كل أمة لا تكون على صلة بماضيها لا تستطيع احترام حاضرها وقد قال جورج سارتون : ” من الضلال أن يقال إن إقليدس هو أبو علم الهندسة أو أبيقراط هو أبو علم الطب ” ويقصد أن العلوم هي نتاج الشعوب على مر التاريخ .  ونحن هنا نتكلم عن موضوع مهم وهو تاريخ الرياضيات وله جوانب متعددة ويطرح أسئلة مختلفة . لماذا دراسة التاريخ وخاصة القديم منه ؟ . وما الفائدة من ذلك . هناك من يقول : إن المعارف القديمة لا تهمنا لأننا في كل يوم نشهد تحولاً وانقلابات في العلم والفكر. وبالتالي ما هي ميزة تاريخ العلم  القديم منه والحديث لندرسه .إن هذا مغالطة ليس بعدها مغالطة.   فالتراث الإنساني وخاصة العلمي متواصل فهو كالبنيان يتكون لبنة  لبنة على مر التاريخ ولا يجوز أن نحذف منه جزء وإلا فالصورة ناقصة والمنطق غير صحيح وعادل تجاه تلك الجهود والتضحيات العظيمة التي قدمها العلماء والباحثون للوصول إلى الحقيقة. فالفكر البشري كائن ينمو ويتطور فأجزاء منه تقوم بأدوار معينة في أوقات خاصة لتمهد لأدوار أخرى معينة تالية. ومن واجبنا عند الحديث عن تاريخ العلوم وخاصة الرياضيات توخي الدقة والأمانة العلمية وهذه مهمة كل العلماء. تكفي هنا الإشارة إلى أن جميع الأمم المتقدمة تعطي اهتماماً كبيراً لإحياء تاريخها وتراثها العلمي. إن دراسة تاريخ الرياضيات مسألة هامة جداً ، لما لذلك من تأثير واسع وعميق على المتخصصين والدارسين. وتمكننا هذه الدراسة لتاريخ الرياضيات وتطورها عبر المراحل التاريخية من متابعة تطور الأفكار الرياضية وتصاعدها وتوسعها وتعمقها وكيفية التغلب على المتناقصات والصعوبات وحل الأزمات التي تقف بوجه الرياضيين التي تبدو أحياناً وفي حينها شبه مستحيلة الحل. كل ذلك يجعل الفرد المتعلم يستند إلى قاعدة متينة وغنية من الأفكار الرياضية والإبداعات البشرية والمساعي المتواصلة والمكثفة في سبيل اكتشاف قانون أو برهان علاقة أو حتى إثبات عدم صحة قضية رياضية.

وبدراسة تاريخ الرياضيات، كأننا نعيد اكتشاف الرياضيات كعلم وعلاقات ومبرهنات لأننا نرصد نموها التاريخي ولكن بشكل سريع أقرب منه إلى الشريط السينمائي في فترة زمنية محددة وتؤكد لنا دراسة تاريخ الرياضيات على مثابرة وصبر العلماء في بحوثهم و معالجاتهم لحل مسائل رياضية كما فعل العالم المجري بولياي (Bolyai) حيث كرس حياته بكاملها لدراسة مسلمة التوازي (المسلمة الخامسة لإقليدس) ولم يحقق نتيجة بينما توصل ابنه الرياضي بولياي إلى فكرة الهندسة اللاإقليدية. هذه المسلمة الخامسة التي تطلب دراستها من قبل العلماء آلاف السنين لكي يثبتوا استقلاليتها عن بقية مسلمات إقليدس أو إمكانية برهانها .

ونذكر أيضاً العالم النرويجي آبل (Abel) الذي كتب مذكراته الرياضية قبل ساعتين من إعدامه وهو رهين السجن وكان لم يتجاوز الثلاثين من عمره حيث أصبحت تلك الأفكار التي سجلها معلماً هاماً وفتحت آفاقاً واسعة في الرياضيات وهي تنتمي إلى الرياضيات الحديثة ( ق 19 م) كما أن العالم الفرنسي جالوا (Galois) مات في مبارزة وهو في سن الحادية والعشرين ولكنه ترك أثراً ملحوظاً في الرياضيات الحديثة وأفكاره تعرف بنظرية جالوا وهي متعلقة بنظرية الزمر المهمة في الرياضيات المعاصرة. يؤكد ذلك أن النتاجات العظيمة للعقل البشري في مجال الرياضيات لها قصة وتاريخ شيق مليء بالأحداث والمفاجآت، بالنجاحات و الإخفاقات، بالصبر والدروس الغنية للأجيال.

 إن دراسة تاريخ الرياضيات ولو بشكل موجز تعطي للإنسان نظرة شاملة مترابطة حول نشوء وتطور الأفكار الرياضية مما يساعد على بلورة منطق علمي تاريخي ويؤكد على التواصل الحضاري. كما أن تعليم “تاريخ الرياضيات” في المراحل الجامعية يعد ظاهرة صحيحة وضرورة ملحة لأهمية ذلك .

فالإنسان منذ القدم يعتمد على غيره ويحاول الإتيان بشيء جديد وعلى هذا فالاعتماد والابتكار هما من العوامل اللازمة لتقدم المدنية و ارتقائها بل لا تقوم حضارة ولا تزدهر ثقافة إلا عليها .

فلقد اعتمد المصريون على البابليين والسومريين والكلدانيين والفينيقيين واعتمد الإغريق على المصريين. كما أعتمد الرومان والهنود على من سبقهم من الإغريق وغيرهم وأخذ العرب عن هؤلاء. و اقتبست أوروبا عن العرب وعن الذين سبقهم ، وهكذا فالجهود الفكرية ملك عام يمكن لمن يريد أن يعتمد عليها ويقتبس منها ما يعود عليه بالنفع والتقدم. ولقد أثبتت التحريات الحديثة أن العلوم الرياضية ميدان اشتركت فيه القرائح المختلفة وأن النتائج فيها لا تنحصر في أمة من الأمم أو شعب من الشعوب فللبابليين نصيب في ميدان الابتكار والإنتاج وكذلك للمصريين والإغريق والهنود والعرب وغيرهم نصيب هام في حقول العلم فقد ساهم هؤلاء في تنميتها وتنشئتها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه. وقد ثبت لدى الباحثين أن أقدم الآثار الرياضية وصلت إلينا من بابل ومصر وهناك دلائل كثيرة لا يحيطها الشك تشير إلى انتقال هذه الآثار إلى الإغريق وقد أخذوا  وزادوا عليها. وأبان كاربينسكي (L.Karpinski ) وكذلك أكد سارتون (G.Sarton) أن الاتصال بين بابل ومصر واليونان كان موجوداً وأن هناك نظريات وبحوث كانت تنسب لعلماء يونان ثبت أنها من وضع علماء بابل ومصر . ويذكر د. فوزي رشيد أن نظرية فيثاغورس القائلة بأن مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمتين ليست من إبداعه الشخصي على الإطلاق وإنما نظرية ابتدعها الفكر الرياضي البابلي منذ أوائل الألف الثاني قبل الميلاد وقد اكتشفت لوحة في تل حرمل قرب بغداد مدونة بالخط المسماري تؤكد معرفة البابليين لهذه النظرية التي اشتهرت باسم نظرية فيثاغورس .

وثمة فيض من الأمثلة الأخرى التي سنأتي على ذكرها في الفصول القادمة. كما نضيف أيضاً أن دراسة تاريخ الرياضيات تؤثر في أخلاقيات دارس الرياضيات لأنها تعلم الدارس ما يلي :
  1. التفكير الموضوعي الذي يعتمد على الدليل المنطقي الاستنتاجي أو التجريبي الإحصائي .
  2. النظر إلى المعارف العلمية بشكل ديناميكي .
  3. عدم التسليم المطلق بالأشياء بل الجدل والسعي نحو الحقيقة بصبر ومثابرة .
  4. اعتماد روح الشك في التعامل مع القضايا الرياضية .
  5. احترام العلماء وتقدير جهودهم وتضحياتهم الشخصية .

6- التواضع وعدم الغرور. وأن ينظر الدارس لنفسه على أنه جزء من التطور وأن يحترم الفكر العلمي ولا يستهين بالرأي الآخر. فهناك علمــاء اكتشفوا نظريات مهمة وجديدة لكن معاصريهم من العلماء، في معظمهم، لم يتقبلوا تلك الاكتشافات في حينها إلا بعد مرور عشرات السنين ( هندسة لوباتشيفسكي اللا إقليدية قوبلت بالرفض في وقتها ولكن فيما بعد اقتنع العلماء والأوساط العلمية بهذه الهندسة وعرفوا قيمتها العظيمة ولكن بعد موت لوباتشيفسكي نفسه).

  • الظروف التي أدت إلى نشوء العلوم العربية:

تعد الترجمة في أحد أبعادها شكلاً من أشكال الحوار الفكري بالكلمة، لذلك يمكن القول إنّ المترجمين يساهمون في إرساء أسس عملية الحوار الثقافي والفكري بين الحضارات المختلفة.

وقد كانت الترجمة وما تزال الوسيلة الأهم لتحقيق التواصل بين الشعوب وتعريف بعضها بالبعض الآخر. فمذ عرف الإنسان الأبجدية محققاً بذلك قفزة نوعية في مضمار التطور، ومذ بدأ يكتب معارفه ويدون تاريخه وأفكاره، كانت الترجمة الرديف المباشر لذلك التطور بنقلها معارف هذا الشعب إلى ذاك وتقديم أفكار هذه الأمة وإبداعاتها إلى تلك، خالقة بذلك التراكم الكمي الذي يصنع التغيير النوعي، جاعلة من البشر سلسلة متصلة الحلقات رابطتها اللغة وقوام تلك اللغة الترجمة.‏ فلولا الترجمة لم يعرف العرب فلسفة الإغريق ولا آداب فارس والهند، وبالمقابل لولا الترجمة لم تعرف أوروبا، وهي في عصر الظلمة، منجزات العرب في الطب والكيمياء والهندسة والرياضيات ولا عرفت ابن رشد وابن الهيثم… إلخ. ولولا الترجمة في العصر الحديث لما عرفنا الأدب الروسي مجسداً في تولستوي ودوستويفسكي ولا عرفنا روائع شكسبير أو تشارلز دكينز أو هوغو أو موليير. ولما عرف العالم روائع الأدب العربي  مثل “ألف ليلة وليلة” والشعر العربي والقرآن الكريم وغيره.

لقد انطلقت الحضارة العربية والإسلامية في إنجازاتها العلمية العظيمة في القرون 7-10 م من ترجمة العلوم القديمة من هندية وفارسية ويونانية من اللغات السريانية والفارسية والسنسكريتية واليونانية إلى العربية وذلك بشكل منظم ومخطط له على مستوى الدولة. كما أن النهضة الأوروبية قامت على أكتاف العلوم العربية واليونانية المنقولة للعربية بترجمتها إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر للميلاد.

ولكن حركة الترجمة والنقل كانت ضعيفة في العصر الأموي . ثم بلغت ذروتها في العصر العباسي وخاصة في عهد الخليفة هارون الرشيد ، وعند ولديه الأمين والمأمون .ومن أشهر المترجمين نذكر حنين بن اسحق (860 م ) وابنه اسحق أما بيت الحكمة التي أسسها الخليفة المأمون فكان أول مدرسة صحيحة للترجمة في العالم العربي سن 832 م وقد  ورثت مدارس علمية كبرى مثل مدرسة الإسكندرية ومدرسة نصيبين في تركيا ومدرسة إنطاكية شمال سوريا ( تركيا ) ومدرسة الرها شمال العراق ومدرسة جنديسابور في إيران ومدرسة قنسرين في شمال سوريا ومدرسة حران شمال سوريا وكان ثابت بن قرّة وابنه سنان بن ثابت قد اشتهروا فيها وقد كان معظم هؤلاء المترجمين الأوائل من السّريان السوريين واليهود إلا أن العلوم التي نقلوها كتبت بالعربية ونقلت إلى العالم كله. بعد أن استفاد منها العرب وأضافوا عليها إبداعهم الخاص وفيما بعد في القرن 10 أصبح المترجمون من العرب والمسلمين. فقد ترجم العرب مئات الكتب من اللغات الفارسية و الهندية والسّريانية والعبرية واليونانية ومن أهمها: 1-كتاب ” الأصول ” لإقليدس نقله الحجاج بن مطر وبعده اسحق بن حنين. 2- كتاب السند هند ” سدهانتا ” لمؤلفه براهما غوبتا ويسميه الهنود الخلود. 3- كتاب المجسطي لبطليموس – الحجاج بن مطر. 4- كتاب المناظر لإقليدس – حنين بن اسحق. 5- كتاب قطوع المخروط لمنيلاوس – حنين بن اسحق. 6- كتاب قطوع المخروط والدوائر لأبولونيوس – حنين بن اسحق  وثابت بن قرّة. أصبحت بغداد في عهد المأمون مركزاً عالمياً للثقافة والعلوم .وقد شجع الخليفة المأمون الترجمة والبحث العلمي من خلال دار الحكمة وخصص للمترجمين والباحثين مكافآت قيمة.  يقول ابن خلدون ” إن الإسلام مدين إلى هذا المعهد العلمي باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت لها أرجاؤه والتي يمكن تشبيهها باليقظة الأوروبية التي أعقبت العصور الوسطى “.  “لقد كان الفكر العربي موسوعياً ” كما قال تاتون .كانت علوم اليونان حية في بلاد الشام وضواحيها وشمالي سوريا بصورة خاصة حين أقبل عليها المسلمون فاتحين . وقد تميز العلماء العرب المسلمون في تلك الفترة : باستخدام العقل واعتماد مبدأ الشك في البحث عن الحقيقة. استخدام الملاحظة الحسية أساساً في التفكير العلمي. استخدام الآلات لضبط أخطاء الحواس. استخدام التجربة العلمية للتحقق من صحة المعلومات أو الفرضيات. الموضوعية والنزاهة في البحث . يقول ابن الهيثم في مقدمة كتابه “المناظر “: ” ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه و نتصفحه استعمال  العدل لا اتباع الهوى . ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده  طلب الحق لا الميل مع الآراء .. وليس ينال من الدنيا أجود ولا أشدّ قربة إلى الله من هذين الأمرين “.

إن علاقة الدين بالعلم لم تكن في التراث الديني ولا في التراث العلمي أمراً عارضاً  بل أن علماء الحضارة العربية الإسلامية اتجهوا نحو العلوم الدقيقة مثل الحساب والجبر وغيرها لحل مسائل في الفقه الشرعي وتوزيع الورثة والزكاة وتحديد وجهة القبلة مما أدى إلى ظهور علوم جديدة مثل الجبر عند الخوارزمي الذي كتب في مقدمة كتابه في الجبر والمقابلة عن أن هذا الكتاب ألفه لمساعدة الناس في حل مسائل توزيع الورثة والتي كانت تحتاج لطرق جديدة مثل عملية الجبر والمقابلة. وكذلك تحديد وجهة القبلة دفعت العلماء لتطوير علم الفلك. ولذلك ظهرت تسميات مثل علم الفرائض وحساب المعاملات. وقد تحدث بعض العلماء مثل ابن هيدور الفاسي في المغرب العربي “واعلم أن الحساب ركن من أركان الدين به تؤخذ القبلة وأوقات الصلاة وبه حساب الأعوام والشهور والأيام زجري الشمس في البروج وحركات الكواكب وحلول القمر في المنازل ومعرفة الساعات النهارية والليلية….فأكثر المسائل الفقهية يدخلها العدد وكفى بالحساب جلالة وشرفاً أنه صفة من صفات الكمال، إذ اتصف به الجليل جل جلاله بقوله “وكفى بنا حاسبين”.

وقد بحث العلماء العرب والمسلمين في الظواهر المختلفة في المجتمع والطبيعة ولم يمنعهم الدين من ذلك بل اعتبر الإسلام أن طلب العلم نوع من العبادة والعلماء ورثة الأنبياء وعالم خير من ألف عابد وغير ذلك من الشواهد. وقد اتصف العلم العربي بشكل عام  بميزات عظيمة منها الشمولية والتنوع والتجريد والانفتاح على العلوم الأخرى والاعتراف بما قدمه السابقون أي الأمانة العلمية. ونورد قول الرازي حيث قال: “كدح السابقون فبنينا على ما حققوه وارتفعنا على اكتافهم وكدحنا وسيبني الآتون على ما حققناه وسيرتفعون على أكتافنا”. وللمقارنة نذكر بقول اسحق نيوتن: “إن كنت رأيت البعيد فلأني قد وقفت على أكتاف عمالقة”. ومثال الأخلاق العلمية للعلماء  المسلمين نذكر قول ابو الريحان البيروني من كتابه “الآثار الباقية”: ” يجب تنزيه النفس عن العوارض المردئة لأكثر الخلق والأسباب المعيقة لصاحبها عن الحق وهي كالعادة المألوفة والتعصب والتظافر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة وأشباه ذلك”. ويحذر من العصبية في العلم فيقول: “إن العصبية تعمي الأعين البواصر وتصم الآذان وتدعو إلى ارتكاب ما لا تسامح باعتقاده العقول”.

وقد امتلك العلماء العرب منهجية علمية في بحوثهم. ويكفي أن نذكر ابن الهيثم البصري عالم الفلك والرياضي والفيزيائي والفيلسوف الذي ربط الحيرة التي وقع فيها العلماء المتقدمون عليه بطبيعة الواقع العلمي المدروس وهو موضوع علم المناظر فيقول: “وما أوسع العذر مع جميع ذلك في التباس الحق وأوضح الحجة في تعذر اليقين: فالحقائق غامضة والغايات خفية والشبهات كثيرة والأفهام كدرة والمقاييس مختلفة والمقدمات ملتقطة من الحواس والحواس التي هي العدد غير مأمونة الغلط. فطريق النظر معفى الأثر والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل. فلذلك كثر الحيرة عند المباحث اللطيفة وتتشتت الآراء وتفترق الظنون وتختلف النتائج ويتعذر اليقين”.

وباختصار كان للعلم الرياضي مركز متميز في العقلانية الشرعية الإسلامية، حيث دعى فقهاء الإسلام إلى تعلم الحساب ووصفوه بالعلم الجليل والشريف وكتبوا مؤلفات سموها “فقه الحساب”  واعتبروا الحساب يساعد المسلم ليس على حل مشاكله الحياتية والدينية وإنما يدرب العقل على إدراك الحقائق بطريق البرهان فتزداد معرفتهم لربهم.

ومن يدرس حضارة الأندلس يرى بوضوح ازدهار العلوم والعلماء من مختلف الأديان والقوميات. فقد وفرت الدولة العربية الإسلامية مقومات لا مثيل لها في التاريخ للابداع العلمي لأتباع الديانات الأخرى من مسيحيين ويهود. وعندما انهارت الدولة الإسلامية في الأندلس وحكم الأسبان المسيحيون مورس اضطهاد فظيع للعلماء والمفكرين  من العرب  والمسلمين واليهود.

ولا نريد أن ندخل في متاهات التطور التاريخي للفقه الإسلامي، فهذا خارج عن نطاق محاضرتنا، لأن هناك بعض الباحثين الأجانب مثل توبي هف الأمريكي صاحب كتاب “فجر العلم الحديث: الإسلام، الصين، الغرب” يرى أن من أهم أسباب تدهور العلم العربي: القيود التي وضعتها المؤسسة الدينية على حرية البحث العلمي ومحاربتها للفلسفة والعلوم الطبيعية وكذلك غياب المؤسسات العلمية المستقلة. والحقيقة أن المشكلة ليست في الدين وإنما في آراء بعض الفقهاء الذين أرادوا وقف الاجتهاد مما أثر على البحث العلمي في مجالات خارج الدين أيضاً والدليل هو التطور العلمي الهائل الذي توصل إليه العلماء العرب في الفترة من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر على الأقل. وقد تكون التقلبات السياسية والغزوات الخارجية مثل المغول وكذلك تشتت الدولة الإسلامية إلى دويلات صغيرة مختلفة بالاضافة إلى عوامل داخلية تتعلق بالدرجة الأولى بالفئات الحاكمة ومزاجها. فهذا حاكم يدعم العلم ويكرم العلماء وآخر يأمر بحرق الكتب الفلسفية وكلهم محسوبون على النظام الإسلامي. واعتقد أننا نجد في العصر الحديث أمثلة عديدة حول المواقف المختلفة للدول الإسلامية من العلم وحرية الابداع والبحث العلمي. ويعتقد بعض الباحثين بأن غياب الحريات السياسية والفكرية والابداعية نتيجة طبيعية لغياب حرية البحث العلمي والتفكير العقلي. فإذا سمح للعالم بالتفكير الحر في قضايا المجتمع والإنسان والطبيعة فقد يفكر في تركيبة النظام الحاكم ليكشف مساوئه وبالتالي يقع في المحظور. ولذلك نجد في الدول النامية خطوط حمراء توضع بصرامة أمام المفكرين والباحثين. فهذا ممكن وذاك ممنوع بحيث يرتبط ذلك، للأسف، بمصالح الطبقة الحاكمة في أغلب الأحيان.

  • أهم انجازات العلماء العرب والمسلمين في الرياضيات:

إن التراث العلمي العربي في ظل الحضارة العربية الإسلامية الممتدة من القرن 8 الميلادي وحتى القرن 16 للميلاد، غني جداً لدرجة أنه كان يتحتم على الإنسان المثقف الذي يريد الإلمام بكل جوانب علوم عصره أن يتعلم اللغة العربية وقد قال المؤرخ والفيلسوف جورج سارتون في كتابه تاريخ العلم [6]: ” إن علماء الإسلام والعرب عباقرة القرون الوسطى ، وتراثهم من أعظم مآثر الإنسانية .إن الحضارة العربية الإسلامية كان لا بد من قيامها. وقد قام العرب بدورهم في تقدم الفكر وتطوره بأقصى حماسة وفهم، وهم لم يكونوا مجرد ناقلين كما قال بعض المؤرخين بل إن في نقلهم روحاً وحياة . فبعد أن أطلع العرب على ما أنتجته قرائح القدماء في سائر ميادين المعرفة نقحوه وشرحوه وأضافوا إليه إضافات هامة أساسية تدل على الفهم الصحيح وقوة الابتكار” .

إن دراسة تراثنا العلمي كعرب ومسلمين له أهمية خاصة، فهو واجب معنوي للتعرف على الدور الحضاري الريادي والعقلية المتطورة لدى أجدادنا في القرون الماضية في حين كانت أوروبا تعيش في ظلمة وجهل . وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها الجميل ” شمس العرب تسطع على الغرب” : عندما كان في الأندلس المئات من المكتبات التي تضم ملايين الكتب والمجلدات فإن ملك فرنسا كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة .. وفي حين كانت شوارع المدن الأندلسية مضاءة بالقناديل فإن عواصم أوروبا كانت مظلمة في الليل .. وهناك أمثلة كثيرة على الرقي والحضارة السائدة في رحاب الدولة العربية الإسلامية، بينما كانت أوروبا تعيش في ظل هيمنة رجال الكنيسة والإقطاعيين الذين مارسوا الاستبداد وقمع الفكر ومحاربة العلم والعلماء. ومعروفة قصة العالم الإيطالي العظيم جاليليو الذي قتل نتيجة اضطهاده وقمعه من قبل رجال الكنيسة الذين اعتبروا أن الشمس تدور حول الأرض إلا أن جاليليو كان على حق من الناحية العلمية حين قال بعكس ذلك ولم يتراجع عن موقفه وذاق مرارة الاضطهاد والمرض حتى مات.

وقد كانت دمشق وبغداد والقاهرة ومدن الأندلس هدفاً للكثير من الباحثين الأوروبيين الذين أرادوا النيل من المعارف العلمية الواسعة المتوفرة في المكتبات والمدارس العربية .

إن الاطلاع على تراثنا العلمي وخاصة في الرياضيات يدفعنا للاعتزاز والفخر بتاريخنا وبدور الحضارة العربية الإسلامية العلمي والتقدمي في تطور العلم والمسيرة الإنسانية الطويلة.  ويشكل ذلك برأينا دافعاً لأجيالنا الصاعدة لكي تدرس وتواصل البحث والابتكار وأن يعرف شبابنا بأن شعبنا جدير بحمل رسالة الحضارة والتقدم كما حملها أجدادنا قبل عدة قرون. ويقول المثل الشعبي : من ليس لـه ماض ليس لـه مستقبل ” ومن المفيد في هذا الإطار الاستشهاد بآراء بعض المستشرقين الأوروبيين حول أهمية العلوم العربية وتأثيرها على الحضارة الأوروبية .

قال بريفو في كتابه ” تكوين الإنسانية “ عن دور العرب العلمي :

“العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العلم الحديث .فالإغريق عظموا أو عمموا ووضعوا النظريات ولكن روح البحث وتجميع المعرفة اليقينية وطرائق العلم الدقيقة والملاحظة الدائبة كانت غريبة عن المزاج الإغريقي وإنما كان العرب هم أصحاب الفضل في تعريف أوروبا بهذا كله وبكلمة واحدة أقول إن العلم الأوروبي مدين بوجوده للعرب “.

لقد قام العرب بدورهم في خدمة الحضارة والمساهمة في تقدم العلوم ، وهناك الكثيرين الذين يجهلون هذه الخدمات التي قدمها العرب للعلم والحضارة . أما موقف المستشرقين (أي العلماء الأجانب المهتمين بحضارة المشرق) إزاء العلوم العربية فينقسم إلى عدة اتجاهات:

  1. هناك من تجنى على الحضارة العربية واعتبر أنها لم تقدم شيئاً يذكر للبشرية، وهذا إجحاف وظلم .إن أصحاب هذا الاتجاه مغرضون،فلديهم دوافع معادية للعرب و الإسلام ومتأثرين بالدعاية الصهيونية وعمدوا للانتقاص من قيمة العلوم العربية والإسلام، ولا نعتقد أنهم حقاً جاهلون بحضارتنا مع ملاحظة التقصير الكبير من قبل العرب في نشر ثقافتهم وتعريف الآخرين بتراثهم العلمي الغني . وتوجد كتب في تاريخ العلوم لمؤلفين أوروبيين لا تذكر أحياناً أو تشير بتواضع شديد إلى العلوم العربية .

2- الاتجاه الثاني يخدم الحقيقة لأنها حقيقة، ودافع عن الحق لأنه حق، أي ظهر علماء غربيون أنصفوا العرب لأن التاريخ يقضي بذلك ومن أبرزهم جورج سارتون الذي قال :  ” إن بعض المؤرخين يجربون أن يستخفوا بتقدمة الشرق للعمران ويصرحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئاً ما . إن هذا الرأي خاطئ . وإنه لعمل عظيم جداً أن ينقل إلينا العرب كنوز الحكمة اليونانية ويحافظوا عليها ولولا ذلك لتأخر سير المدنية بضعة قرون ..” .

ويعتقد سارتون بأن العرب كانوا أعظم معلمين في العالم وأنهم زادوا على العلوم التي أخذوها وأنهم لم يكتفوا بذلك بل أوصلوها درجة جديرة بالاعتبار من حيث النمو والارتقاء. وقال نيكلسون : “.. وما المكتشفات اليوم لتحسب شيئاً مذكوراً إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلاً وضاءً في القرون الوسطى المظلمة ولا سيما في أوروبا”.  وقال كارا دي فو “… إن الميراث الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به. أما العرب فقد أتقنوه وعملوا على تحسينه وإنمائه حتى سلموه إلى العصور الحديثة ..”. ويذهب العالم الفرنسي سيديو إلى أن العرب هم في واقع الأمر أساتذة أوروبا في جميع فروع المعرفة . وقال برتراند رسل في كتابه ” حكمة الغرب “:  “.. لم يكن واضحاً لفرسان المسيحية ( الحملة الصليبية ) في البداية أنهم إنما كانوا يواجهون في العالم الإسلامي ثقافة أسمى من ثقافتهم بما لا يقاس “.

ويقول كارل ميننجر عن نهضة العرب : ” كانت بغداد وقرطبة ، الخلافتان العربيتان المشرقية والمغربية ، موضعين طرفيين لنظام عملاق يمتد إلى عدة قارات .. ومن بينهما .. تدفق التيار الحضاري .. عبر كيبل(سلك) فائق الموصلية بلغة عربية واحدة …كان اتجاه التيار من الشرق إلى الغرب ..فالشرق – إذا تابعنا بأسلوب المجاز – هو المرسل والغرب هو المستقبل “.

ويقول جون ماكليش في كتابه ” العدد “:  “ومع أن العرب كانوا أشداء جداً في الحرب، ، فإن أسلوب حياتهم في السلم كان متسامحاً ومتحضراً . وقد أضافوا إلى الفنون والعلوم خاصة ، عناصر مهمة أنقذت النشاط الفكري من عبث اليونان ومن تعصب الرومان ، هذا وإن هذه السمة ما انفكت آثارها مائلة في الدراسة العلمية إلى يومنا هذا “.

كما يضيف ماكليش :  ” أقام العرب في كل مكان من مملكتهم الواسعة مكتبات عامة ومراصد ومراكز للبحث .. وجهد العلميون العرب في تسجيل كل قدر من المعرفة وصلت إليه البشرية ، وفي تطويره إلى آفاق أوسع . وقد نفذوا برامج ضخمة لنشر أعمالهم العلمية والرياضياتية ولترجمة أعمال من السريانية والفارسية والصينية واليونانية ولغات أخرى ، كما استثمروا ، أكثر من أي باحثين آخرين في أي حضارة قبلهم، معيار الممارسة والتجربة في البحث عن الحقيقة العلمية ، ربما يكون قد فاتهم التخيل المفرط الذي كان لدى اليونان ، لكنهم عوضوا عن ذلك بالشمولية وبالاستشراف العملي “.

لولا جهود العرب لبدأت النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر للميلاد من النقطة التي بدأ العرب منها نهضتهم العلمية في القرن الثامن للميلاد .

وهناك البعض من مفكري وعلماء وفلاسفة الغرب من يعرض التطور الحضاري، والعلمي منه خاصة، من الفترة اليونانية ويتكلم عن العبقرية اليونانية أو المعجزة اليونانية ، ويقفز إلى العبقرية أو المعجزة الأوروبية الغربية كاستمرار للحضارة اليونانية دون ذكر للحضارة العربية وهذا تجني وتحامل وعدم أمانة للتاريخ وعدم احترام للحقيقة التاريخية .

من الممكن أن يجهل البعض جوانب وصفحات من تاريخ العلم ولكن مع اكتشافها يجب أن نتوخى الدقة والأمانة العلمية وهذه مهمة العلماء العرب قبل غيرهم..

ويجب أن ننسب الاكتشافات العلمية ، التي تعرف الآن بأسماء علماء غربيين ، إلى أصحابها الأصليين العرب الذين عرفوها قبل الأوروبيين بعدة قرون ( الأمثلة فيما بعد ) . يقول وايد مان:

” … إن العرب اخذوا بعض النظريات عن اليونان وفهموها جيداً وطبقوها على حالات كثيرة ومختلفة ثم أنشؤوا من ذلك نظريات جديدة وبحوثاً مبتكرة فهم بذلك أسدوا إلى العلم خدمات لا تقل عن الخدمات التي أتت من مجهودات نيوتن وفارادي وغيرهم ..”.

نحن بأمس الحاجة لاستمداد الماضي، واستلهامه عزماً وقوة لا مباهاة وفخرا ً، لمعرفة الحاضر والانطلاق نحو المستقبل بأمل وثقة .

وللحديث عن المكتشفات العلمية للعلماء العرب نحتاج إلى مجلدات ولكننا سنتوقف عند بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

  • اكتشاف علم الجبر (الخوارزمي – ق 9 م). وهو أول من استخدم الأرقام الهندية العشرية وعن طريق ترجمة كتابه “في الجبر والمقابلة” إلى اللاتينية انتشر مصطلح الجبر  إلى كافة لغات العالم وكذلك مصطلح ألغوريتم (الخوارزمية) وهي غير اللوغاريتم. وهو أول من استخدم المجهول ( الجذر – الشيء ) والمال (المربع) والمفرد هو العدد الثابت وأول من صنف المعادلات الجبرية إلى ستة أنواع من الدرجة الثانية وأعطى حلولها بطرق مختلفة منها جبرية ومنها  هندسية وانتبه للحلول التخيلية للمعادلة وقال أن المسألة مستحيلة.  كتب جورج سارتون في ” مقدمة تاريخ العلم “: ” الخوارزمي كان أعظم رياضي في ذلك العصر .. وإذا أخذنا جميع الحالات بعين الاعتبار فإن الخوارزمي أحد أعظم الرياضيين في كل العصور “ واعتبر سارتون النصف الأول من القرن التاسع عصر الخوارزمي وأكد وايدمان أن أعمال الخوارزمي تتميز بالأصالة والأهمية العظمى فيما تظهر عبقريته . وقال سمث وكاربينسكي في كتابهما ” الأعداد الهندية والعربية ” : “بأن الخوارزمي هو الأستاذ الكبير في عصر بغداد الذهبي إذ أنه أحد الكتاب المسلمين الأوائل الذين جمعوا الرياضيات الكلاسيكية من الشرق والغرب ، محتفظين بها حتى استفادت منها أوروبا المتيقظة آنذاك. إن لهذا الرجل معرفة كبيرة ويدين له العلم بمعرفتنا الحالية لعلمي الجبر والحساب “.
  • –        حساب المثلثات أصبح علماً مستقلاً  بفضل العلماء العرب مثل البتاني (ق 9-10) وأبو الوفاء البوزجاني (ق10) ونصير الدين الطوسي (ق 12) وغيرهم. فقد اكتشف العرب دالة الظل وظل التمام وبرهنوا نظريات الجيوب وجيوب التمام وغيرها. والبتاني من أعظم علماء الفلك على مر التاريخ وهو من حران شمال سورية. كما سحرت بحوث ” البوزجاني ” بعض الغربيين فراحوا يدعون محتويات كتبه لأنفسهم . فقد ادعى ” ريجو مونتانوس “ لنفسه بعض نظريات” أبي الوفاء ”  في حساب المثلثات وأدخلها في كتابه ” المثلثات ” وأختلف العلماء الفرنسيون في أكاديمية العلوم الفرنسية ( ق 19 م) حول موضوع نسبة الخلل في حركة القمر . وهناك من نسبها إلى ” تيخوبراهي ” الفلكي الدانمركي . ولكن أتضح فيما بعد وبعد تحريات دقيقة أن الخلل الثالث هو من اكتشاف ” البوزجاني “. ولهذا الاكتشاف أهمية كبرى تاريخية وعلمية لأنه أدى إلى اتساع نطاق الفلك والمكيانيكا . وهو الذي وضع دالة الظل ودالة القاطع وقاطع التمام. وعن الطوسي كتبت مئات الكتب وله مئات المؤلفات في الفلك والرياضيات والفلسفة. ويقال: إن الطوسي نظم قصيدةً مدح فيها المعتصم ، وأن أحد الوزراء رأى فيها ما ينافي مصلحته الخاصة فأرسل إلى حاكم قوهستان ” يخبره بضرورة ترصده ، وهكذا كان ، فإنه لم يمض زمن إلا “و الطوسي” في قلعة الموت، حيث بقي فيها إلى مجيء هولاكو في منتصف القرن السابع للهجرة ( ق 13 م ) . وفي هذه القلعة أنجز أكثر تآليفه في العلوم الرياضية التي خلدته وجعلته علماً بين العلماء. وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند ” هولاكو ” وكان يطيعه فيما يشير به عليه والأموال في تصريفه ..” وقد عهد إليه هولاكو في مراقبة أوقاف جميع الممالك التي استولى عليها . عرف الطوسي كيف يستغل الفرص ، فقد أنفق معظم الأموال التي كانت تحت تصرفه في شراء الكتب النادرة وبناء مرصد “مراغة”.
  • –        قدم العرب اسهامات كبيرة في دراسة المسلمة الخامسة لإقليدس وحاولوا برهانها وأعطوا أفكاراً جوهرية مهدت لاكتشاف النظريات اللاإقليدية (نظرية لوباتشيفسكي الزائدية ونظرية ريمان الناقصية وغيرها). ومن أهمهم الجوهري وثابت بن قره والطوسي. وقد ترجمت أعمال الطوسي مثلاً إلى الروسية واطلع عليها لوباتشيفسكي (ترجمة كاظم بك). وقد كان الطوسي أول من اقترح الشكل الرباعي الذي استخدمه العلماء الأوروبيون في ابحاثهم وسموه رباعي ساكيرا (الإيطالي). كما أن المستعربين الروسيين يوشكيفيتش وروزنفلد ألفا كتاباً مهماً حول مساهمات العلماء العرب في محاولة برهان مسلمة المتوازيات لإقليدس. وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية في جامعة حلب. أما ثابت بن قره فقد ولد في حران بالقرب من مدينة الرقة شمال سورية. ويدهش نتاجه العلمي الضخم العلماء فقد درس العلم من أجل العلم ووجد فيه متاعاً للعقل وسعى إلى الكشف عن الحقيقة وكان مخلصاً لها . كان ” ثابت بن قرّة ” من العلماء العرب الموسوعيين فقد تعددت نواحي عبقريته فنبغ في الطب والرياضيات والفلك والفلسفة وترك فيها مؤلفات علمية قيمة وكان من أفضل من ترجم العلوم إلى اللغة العربية ( حسب سارتون ) وهو الذي مهد لظهور التكامل – من أهم فروع الرياضيات الحديثة. وله مبرهنات نظرية الأعداد مثل مبرهنة الأعداد المتحابة. ويقال أنه اختلف مع أهل مذهبه ” الصابئة ” فهجرهم والتقى بالخوارزمي الذي أعجب به واصطحبه معه إلى بغداد وأدخله في جملة المنجمين . وتحكى قصة عن الخليفة المعتضد وحبه واحترامه للعلماء أنه كان يتمشى مع ” ثابت بن قرّة ” ( كان الخليفة يلقبه  بأبي الحسن ) في بستان القصر وقد أتكأ على يد ” ثابت ” إذ نتر الخليفة يده من يد ” ثابت ” بشده ففزع ” ثابت ” ، فإن الخليفة كان مهيباً جداً فلما نتر يده من يد ” ثابت ” قال له ” يا ” أبا الحسن ” سَهَوْت ووضعت يدي على يدك واستندت عليها ، وليس هكذا يجب أن يكون فإن العلماء يعلُون ولا يُعلَوْن …. ويعتبر ثابت من ألمع علماء عصره ومن الذين تركوا مآثر جمة في بعض العلوم وكان يتقن لغات عديدة منها السريانية واليونانية والعبرية.
  • درس العلماء العرب المثلثات الكروية وبرهنوا نظريات جديدة (ابو نصر بن عراق وابن قره والطوسي وغيرهم).
  • –          وضع الفيلسوف والشاعر والرياضي والفلكي عمر الخيام في القرن 12 م أسس نظرية الهندسة الجبرية وذلك في حل المعادلات التكعيبية باستخدام القطوع المخروطية (اكتشفها أبولونيوس في ق 2 ق.م.). وقد جاء التطوير اللاحق لهذا الفرع على يدي العالم الفرنسي الكبير رينيه ديكارت في القرن 17 م. وقد أجرى الخيام لأول مرة تمييزاً واضحاً  في  تعريف الجبر  على أنه استخدم المعادلات لإيجاد المجاهيل عن طريق كثيرات الحدود . وقد أورد 25 نمطاً من المعادلات مقابل الأنواع الستة عند الخوارزمي. وقد أبدع في  الفلك والأرصاد وكان عمله دقيقاً . وقد قال العالم الإنجليزي  جيبون: “إن تقويم ” الخيام ” كان أدق من غيره من التقاويم وتقرب دقته من دقة التقويم ” الجريجوري ” الذي يؤدي  إلى الخطأ الذي ينجم عن تقويم ” الخيام  ” هو  يوم في كل  5000 سنة”.
  • –          لقد أبطل ابن الهيثم (ق 10-11 م) علم المناظر الذي وضعه اليونان وأنشأ علم الضوء الحديث وذلك في كتابه “المناظر” وبرهن جميع النظريات في البصريات بشكل رياضي . وأعطى ابن الهيثم أسس طريقة البحث العلمي والتي تنسب للأسف لبيكون الذي جاء بعده بعدة قرون. وعناصرها الأساسية هي: الاستقراء والقياس والاعتماد على المشاهدة أو التجربة أو التمثيل . ودعا إلى البحث عن الحق والحقيقة وأن العلم يجب أن يخدم العدل. والحقيقة أن ابن الهيثم باعتراف المستعربين الأجانب يوضع على مصاف انشتاين لأنه صاحب الثورة العلمية في التفكير والبحث. وله اكتشافات عظيمة في البصريات والرياضيات والفلك والفلسفة وغيرها. قال عنه سارتون :” إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الفيزياء بل أعظم علماء الطبيعة ( الفيزياء ) في القرون الوسطى ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله”. ويعود الفضل إلى ابن الهيثم في بعث النهضة الأوروبية بالنواحي العلمية. وكتب الأستاذ مصطفى نظيف في مقدمة كتابه ” البصريات ” ما يلي : ” والذي جعلني أبدأ بعلم الضوء دون فروع الفيزياء الأخرى أن علماً أزدهر في عصر التمدن الإسلامي وكان من أعظم مؤسسيه شأناً ورفعة وأثراً ” الحسن ابن الهيثم ” الذي كانت مؤلفاته و مباحثه المرجع المعتمد عند أهل أوروبا حتى القرن السادس عشر للميلاد ..”. فقد بقيت كتبه منهلاً عاماً ينهل منه أكثر علماء القرون الوسطى مثل: “روجر بيكون ” و ” كبلر ” و ” ليوناردوفينتشي” وغيرهم. وكتبه هذه وما تحتويه من بحوث مبتكرة في الضوء هي التي جعلت  ماكس مايرهوف يقول بصراحة:  “… إن عظمة الابتكار الإسلامي تتجلى في البصريات “. ويعد كتاب ” المناظر ” من حيث المحتوى والشكل من أرقى الكتب العلمية والذي لا يقل عن الكتب الجامعية الحديثة. ففيه دراسة مستفيضة لانكسار الضوء وتشريح العين وكيفية تكوين الصور على شبكية العين لدرسها. وهذا الكتاب من أروع وأبدع ما أخرجته قريحة خصبة في القرون الوسطى . فلقد أحدث انقلاباً في البصريات وجعل منه علماً  مستقلاً له أصوله وأسسه وقوانينه، كان يسير فيه على نظام علمي يقوم على المشاهدة والتجربة والاستنباط. وقد اعتمد كتاب ابن الهيثم ” المناظر ” مرجعاً علمياً في الجامعات الأوروبية لا يعلو عليه كتاب واستفاد منه جميع العلماء الأوروبيين ولم يزيدوا عليه شيئاً حتى القرون 19 و 20 عندما تطور علم الضوء كثيراً وبشكل نوعي. ويرى ابن الهيثم  “إن ثمرة هذه العلوم (ويقصد العلوم الرياضية والطبيعية والإلهية) هو علم الحق والعمل بالعدل في جميع الأمور الدنيوية ، والعدل هو محض الخير الذي بفعله يفوز ابن العالم الأرضي بنعيم الآخرة السماوي”.
  • اكتشف العرب الكسور العشرية في القرن 12 م (السموأل وقد يكون الإقليدسي قبله) وليس الكاشي من القرن 15 أو ليس لمؤلفين غربيين مثل ستيفن (1585) أو بونفيس (1352).
  • مهد العرب لظهور عملية التكامل وذلك من قبل ابن الهيثم وثابت بن قره وغيرهم ، حيث حسبوا مساحات وأحجام دورانية بطرق تقريبية تشبه تماماً تعريف التكامل المعاصر.
  • استخدم شرف االدين الطوسي (ق 12 م ) فكرة المشتق في دراسة جذور كثيرات الحدود ولكنه لم يسميه باسمه.
  • ويشير د. رشدي راشد في كتابه ” تاريخ الرياضيات العربية “: “بالفعل فإن دراسة أعمال الرياضيين من مدرسة الكرجي مكنتنا من أن  نبين:  إن ابتكارات عديدة منسوبة حتى الآن إلى جبريي القرنين الخامس عشر والسادس عشر هي في الواقع من عمل هذا التقليد. ومن بين ما توصل إليه الرياضيون من مدرسة الكرجي نجد نظريات كاملة كجبر كثيرات الحدود وقضايا جوهرية – صيغة ذات الحدين وجدول المعاملات و خوارزميات مثبتة – كتلك الخاصة بقابلية قسمة كثيرات الحدود وطرق البرهنة كالاستقراء التام .
  • أما الكسور فإن طرق العرب فيها لا تختلف عن الطرق المعروفة الآن . والعرب أول من استخدم خط الكسر.
  • وقد بحث العرب في استخراج المجهولات وبرعوا في الطرق التي أتبعوها لذلك فقالوا باستخراج المجهولات بالأربعة المتناسبة، وبحساب الخطأين، وبطريقة التحليل والتعاكس، وبطريقة الجبر والمقابلة .
  • –          ظهرت في أعمال العلماء العرب مثل ابن الياسمين (ق 12 م) والقلصادي (ق 15 م) وابن حمزة المغربي (ق 16 م) اختصارات جبرية لكتابة المعادلات الجبرية مثل رمز (ش أو س حالياً) للشيء (المجهول) ورمز (م) للمال (المربع) ورمز (ل) للمساواة ورمز (ك) للمكعب  ورمز (جـ) للجذر وغيرها.
  • –          قام العلماء العرب بحسبنة الجبر، بينما كان العلماء اليونان يستخدمون الجبر الهندسي ويتعاملون مع الأعداد على أنها مقادير هندسية. ولذلك وقع الفيثاغوريون في إشكال كبير عند اكتشاف الأعداد الصم مثل جذر العدد 2 وهو طول الوتر في مثلث قائم متساوي الضلعين وكل منهما يساوي الواحد. ومن أشهر العلماء العرب أبو كامل والكرجي والخيام وغيرهم الكثير ممن ساهموا في تحرير الجبر من الهندسة.
  • قام العلماء العرب بتطوير مفهوم العدد من الطبيعي الصحيح إلى الكسور العادية (نسبة) إلى الكسور العشرية والنسب بشكل عام التي فتحت الطريق لوضع أسس مفهوم العدد الحقيقي الموجب. فقد تعامل العلماء العرب مع الأعداد غير النسبية (التي سماها العرب غير المنطقة أو الأعداد الصم أو الأعداد الجذرية) كأعداد وليس كمقادير هندسية كما هو الحال عند إقليدس وبذلك ساهموا بتطوير الجبر والحساب والعمليات الجبرية. وهنا نذكر البيروني والخيام والكرجي وابن البغدادي وغيرهم.
  • –          قام العلماء العرب بتطوير المربعات السحرية وكذلك طريقة حساب الخطأين التي سميت في المغرب العربي قاعدة كفات الميزان وذلك يدل على فهم عميق للعلاقة بين الفيزياء والرياضيات. فقاعدة الكفات مرتبطة بمسألة التوزين المعروفة وهذه المسائل جميعها مرتبطة بالمعادلات والجبر .
  • أول من استخدم التحليل التوافيقي في وضع المعاجم اللغوية هم العلماء العرب. فقد قام الخليل بن أحمد الفراهيدي باستخدام الطرق التوافقية في وضع معجمه “العين” في القرن العاشر الميلادي. وكان ذلك من بدايات تأسيس علم اللغة الرياضية المعاصر.
  • –           وتوصل العلماء العرب والمسلمين إلى مفهوم الحل العددي التقريبي للمعادلات الجبرية. فمثلاً قام البيروني بحل المعادلة التكعيبية 😡 3 = 1 + 3x   في النظام الستيني والتي نتجت عن مسألة إنشاء مضلع منتظم ذي عشرة أضلاع. كما أعطى الكاشي طريقة عبقرية تعتمد على الاستكمال الخطي لحل المعادلة التكعيبية:   x3 + Q = px  وهي طريقة متطورة لا تقل دقة عن الطرق التي ظهرت في أوروبا بعد فييت الفرنسي.
  • دور المستعربين الروس في دراسة المخطوطات العلمية العربية

تم التركيز في روسيا على دراسة الرياضيات في المشرق العربي مع اهتمام ضعيف برياضيات المغرب العربي والأندلس لأسباب تتعلق قبل كل شيء بندرة المخطوطات المغاربية والأندلسية في المكتبات الروسية. ومن جانب آخر كان هناك احتكاك بين المستعربين الروس وبلدان المشرق العربي.

 أما دراسة الرياضيات في المغرب العربي والأندلس فقد بدأت لأول مرة في روسيا منذ عام 2002 من قبل الباحثين في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا في موسكو محمود الحمزة ومريم روجانسكايا. ويرجع ذلك إلى العثور على مخطوطة في مكتبة معهد المخطوطات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية ومخطوطة أخرى في المكتبة العلمية لكلية اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ وهما: “تلخيص أعمال الحساب” لابن البناء المراكشي، و”كشف الأسرار عن علم حروف الغبار” للقلصادي.  وتمت ترجمة مخطوطة ابن البناء بكاملها إلى الروسية مع التعليق التاريخي والرياضي حول محتوياتها وكذلك أنجزت ونشرت ترجمات من العربية إلى الروسية مع دراسات تاريخية ورياضية لأجزاء من مخطوطات الحصار وابن غازي الفاسي والقلصادي ويعيش الأموي وابن الهائم وابن الياسمين وغيرهم

كانت البداية الحقيقية لدراسة المؤلفات ذات المحتوى الفيزيائي والرياضي في روسيا مترافقة مع العمل على إصدار المؤلفات المنفردة والمجموعات الكاملة لأبرز العلماء العرب، وذلك في أواسط القرن العشرين. وتميزت هذه الفترة الجديدة من الإستعراب الروسي بأن انضم إلى فريق الباحثين في العلوم العربية ليس المستعربون وحسب بل المختصون في مجال العلوم الأساسية: الرياضيات، الفيزياء، الفلك، الفلسفة.

وكان العمل قد بدأ سوية في ثلاثة مراكز في روسيا: أولاً: في موسكو تحت إشراف ومشاركة أ.ب. يوشكيفتش الذي يعود إليه أول بحث في تاريخ الرياضيات العربية في الإتحاد السوفياتي و قد أعجب به ي.يو.كراتشكوفسكي. ونشر هذا العمل عام 1948 وكان عن “الجبر عند عمر الخيام” – وهو بحث معمق عن رسالة الخيام الجبرية والتي وضعت نقطة البداية لسلسلة كاملة من الأبحاث في تاريخ المخطوطات الرياضية للعلماء العرب والمسلمين في القرون الوسطى. أما المركز الثاني لهكذا أبحاث فهو باكو، حيث ظهرت فيها، مع نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، سلسلة أعمال غ.د.مامدبيلي باللغتين الروسية والآذرية المكرسة لأعمال نصير الدين الطوسي ودوره في تطوير الرياضيات والفلك . ثالث هذه المراكز هو طشقند وفيها كتب غ.د. جلالوف مجموعة من الأعمال عن الإبداع العلمي للبيروني وعن نشاط مرصد سمرقند ونتائج ممثلي مدرستها العلمية. وفي عام 1950 ظهر كتاب ت.ن. كاري – نيازوف “المدرسة الفلكية لأولغ بك” الذي احتوى على تحليل دقيق لزيج أولغ بك وعن العاملين معه (على أساس المخطوطات المحفوظة في طشقند) مما سمح برصد مسار تشكل هذه المدرسة. وقدمت في ذلك الكتاب لوحة عامة عن إنجازات العلم في آسيا الوسطى حتى القرن 15 م.

لقد أصبحت الأعمال المذكورة للعلماء السوفييت في المراكز العلمية الثلاثة، بداية لدراسة وأبحاث مكثفة للمخطوطات العربية في الرياضيات والفيزياء، المحفوظة في المكتبات والخزائن والمؤسسات العلمية في روسيا مما أدى في النتيجة إلى ولادة مدرسة علمية سوفيتية في مجال تاريخ العلوم الرياضية والفيزيائية في المشرق القروسطي. وقد انخرط في هذا العمل بعد يوشكيفتش ومامدبيلي وكاري – نيازوف مجموعة من الباحثين كمترجمين وشارحين مثل ب.أ. روزنفيلد (1952)، م.ي. ميدفوي (1958)، غ.ب.ماتفيسكايا (1962) و م.م.روجانسكايا (1966) وكذلك فصيل كامل من مؤرخي الرياضيات والفلك الذين كان معظمهم تلاميذ لروزنفيلد وماتفيفسكايا.

وتنتشر الآن العديد من المكتبات في روسيا وجمهوريات آسيا الوسطى والتي تضم في خزائنها مجموعات غنية وقيمة من المخطوطات العربية والفارسية والتركية. ومن أكبر المراكز: معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية- فرع لينينغراد – (المتحف الآسيوي سابقاً) ومعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الأوزبكية (طشقند)، ومكتبة لينين الحكومية (موسكو) ومكتبة سلطيكوف شيدرين العامة (لينينغراد) ومعهد المخطوطات الجيورجي (أكاديمية العلوم الجيورجية- تبيليسي) ومركز المخطوطات القديمة ماتانديرن (يرفان) ومركز المخطوطات الجمهوري (باكو) ومعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الطاجيكية (دوشنبيه) ومكتبة الفردوسي الحكومية (دوشنبه) ومكتبات جامعات لينينغراد وقازان.

وقد عثر على بعض المخطوطات الهامة بالنسبة لتاريخ العلوم في مكتبات صغيرة تقع في مناطق بعيدة. ونذكر مثالاً على ذلك المخطوطة المحتوية على جزء كبير من مؤلفات ابن الهيثم (وبعضها نادر) التي وجدت في مكتبة محافظة كويبيشف. وقد صنفت تلك المخطوطات المذكورة  في مراكز لينينغراد في فهارس منذ القرن 19 م. وتم توسيعها إلى حد كبير فيما بعد. وعدا ذلك تم إصدار مجلدات من “فهرس المخطوطات الشرقية” في طشقند وكذلك نشرت فهارس بيبليوغرافية في تبيليسي ودوشنبه وفي عام 1966 ظهر فهرس موجز بأهم المخطوطات في الفيزياء والرياضيات باللغتين العربية والفارسية المحفوظة في الإتحاد السوفياتي

وظهر كذلك كتاب روزنفلد وماتفيفسكايا “علماء الرياضيات والفلك وأعمالهم في البلاد الإسلامية في القرون الوسطى” (ق 8 – 17 م) الذي يحتوي على معلومات غنية عن عدد كبير من المخطوطات بما فيها المحفوظة في الإتحاد السوفياتي (صدرت مؤخراً طبعة جديدة من تلك الموسوعة باسم روزنفلد وكمال حسين أوغلو باللغة الإنجليزية في اسطمبول 2004 ).

النتائج الأساسية لمدرسة تاريخ العلوم العربية في روسيا:

سنعرض النتائج الاساسية لأبحاث العلماء السوفييت منذ عام 1950 خلال فترة تزيد عن خمسين عاماً.

تجرى أبحاث على نطاق واسع في تاريخ الرياضيات العربية والتي نقصد بها الرياضيات ليس في الشرق الأوسط وإيران فقط وإنما في أراضي آسيا الوسطى وما وراء القوقاس والمغرب العربي.

ودرست أعمال العديد من علماء الرياضيات والفلك بدءاً من الخوارزمي ومروراً بعلماء كبار مثل أبناء بني موسى، وثابت بن قرة وأبو كامل وإبراهيم بن سنان وأبو الوفاء والكرجي وابن الهيثم والفارابي والبيروني وعمر الخيام والطوسي وغيرهم وانتهاءً بممثلي مدرسة سمرقند الكبار: الكاشي، الرومي، أولغ بك، القوشجي. وظهرت كمية كبيرة من الترجمات [6]. ورأت النور لأول مرة كثير من المخطوطات العربية في ترجمات روسية أو شروحات بعد أن طواها النسيان لمئات من السنين كل ذلك أدى لإثراء معارفنا عن الرياضيات العربية ودور شعوب آسيا الوسطى فيها، وساعد في نهاية الخمسينات وبداية الستينات في التعميم الجزئي للمواد المدروسة وانعكس ذلك قي سلسلة مقالات ليوشكيفتش (1951،1958،1959) في كتابه “تاريخ الرياضيات في القرون الوسطى” (1961) وكذلك في العمل المشترك ليوشكيفتش وروزنفلد “الرياضيات في بلاد المشرق في القرون الوسطى” (1960) [7].

ومن أهم النتائج البحثية في هذا المجال: قام يوشكيفتش باسترجاع محتويات المخطوطة الحسابية للخوارزمي والذي كان محفوظ جزئياً في الترجمة اللاتينية من القرن 12 م. وقام ميدوفوي بدراسة طرق الحسابات العملية باستخدام الكسور العادية الواردة عند أبي الوفاء وكذلك كتاب النسوي (1963).

وتمت دراسة نظرية النسبة المركبة عند ثابت بن قرة وتطور مفهوم العدد الحقيقي الموجب أثناء دراسة مخطوطات الخيام. وقد عرضت نظرية النسبة والدراسات المتراكمة حول مفهوم العدد، بشكل شامل في كتاب ماتفييفسكايا (1967). وأولت في بحوثها اهتماماُ خاصاً لدراسة حسبنة نظرية إقليدس للجذور التربيعية في أعمال العلماء العرب القرن 9-13 م. وخاصة في أعمال البغدادي (ق 10-11 م) الذي كان سابقاً لديكارت. ودرس موضوع ظهور مبرهنة ثنائي الحد في الأدبيات العربية (الطوسي، الكاشي، وغيرهم) و طرق استخراج الجذور بأسس صحيحة موجبة (يوشكيفنتش، روزنفلد، أحمدوف). وسمحت أبحاث رشدي راشد (باريس) بمتابعة هذه المسألة في مراحل مبكرة. أما النظرية الهندسية للمعادلات التكعيبية عند الخيام فدرست من قبل يوشكيفيتش وروزنفلد وكذلك الإنشاءات الهندسية لأبو الوفاء والفارابي.

وعرضت في أعمال العلماء السوفييت بشكل شامل ومعمق بحوث عن تطور نظرية المتوازيات والتي تجلت في محاولات إثبات مصادرة إقليدس أو استبدالها بإقتراح (بفرضية) أكثر وضوحاً وذلك في مخطوطات ثابت بن قرة وابن الهيثم وعمر الخيام والطوسي وغيرهم (يوشكيفيتش وروزنفلد، مامدبلي وغيرهم) كما اكتشفت منذ فترة مناقشات هامة للخطوط المتوازية مرتبطة بالمصادرة الخامسة، في كتاب “القانون المسعودي” للبيروني (ب.غ.بولغاكوف. أ.أحمدوف).

أثبتت هذه الأبحاث بأن علماء الرياضيات العرب سبقوا علماء القرن 18 م في بعض الأفكار والطرق الأساسية. وأولى العلماء السوفييت اهتماماً خاصاً لمسائل تاريخ المثلثات المستوية والكروية، والتي كان عرض أسسها إجبارياً لكثير من الأزياج.

أما دراسة “مخطوطة الرباعي التام” للطوسي والمؤلف المجهول الذي يسبقه زمنياً “رسالة في تعريف الوتر في الدائرة وفصول من “القانون المسعودي” حول حساب المثلثات للبيروني و”المجسطي” للفارابي والمخطوطات المثلثية للكاشي والرومي ، فقد سمحت بتفسير بعض مسائل الجمع وتاريخ حساب المثلثات (وخاصة مبرهنة الجيوب وجيوب التمام وطرق تعريف الدوال المثلثية) وكذلك طرق حساب المقادير المثلثية وتشكيل الجداول في المشرق القروسطي (يوشكيفيتش، روزنفلد، روجانسكايا وغيرهم) وتقترن بالأعمال المنجزة في تاريخ حساب المثلثات وسلسلة من البحوث المتعلقة بظهور مفهوم الإرتباط الدالي وخواصه العامة وكذلك طرق دراستها (روزنفلد، روجانسكايا وغيرهم).

لقد وجهت عناية خاصة لدراسة أفكار وطرق اللامتناهيات في الصغر في الرياضيات العربية. فدرست مخطوطات ثابت بن قرة وابن سنان حول تربيع القطع المكافئ وتكعيب المجسم المكافئ كما درست مخطوطات ابن الهيثم حول قياس حجم الكرة والأشكال المنتظمة وأفكار الطوسي في اللامتناهيات في الصغر التي طورت أسلوب أرخميدس في طرق اللامتناهيات في الصغر (روزنفلد، قوبيسوف وغيرهم) بالإضافة لذلك فقد لوحظت في الرياضيات العربية اتجاهات أخرى لتطوير طرق اللامتناهيات في الصغر المرتبطة بدراسة خواص الإرتباطات الدالية (ابن قرة ، البيروني) والتي استخدمت بنجاح في دراسة مسائل الميكانيك السماوي في ذلك الوقت .

دراسة الفلك والطب والفلسفة والميكانيكا العربية:

حظي علم الفلك العربي بإهتمام كبير. حيث تحدثنا أعلاه عن البحوث الأولى التي تعود إلى خمسينات القرن العشرين أما المرحلة الجديدة من البحوث في تاريخ الفلك، فترتبط بدراسة وإصدار المؤلفات الفلكية لكبار العلماء العرب: البيروني والفارابي والخوارزمي والفرغاني والطوسي والشيرازي وابن عراق وغيرهم. وساهمت تلك البحوث بكتابة تاريخ الفلك الكروي والجغرافيا الرياضية في المشرق القروسطي سواء منها المسائل الخاصة (تاريخ ظهور مبرهنات وطرق خاصة مثل إسقاط الكرة على المستوى)، أو المسائل العامة لحساب الإحداثيات ووسائط (بارمترات) حركة الأجسام السماوية المرتبطة بتاريخ الطرق الرياضية المستخدمة في الفلك. ودرست أيضاً فهارس (دلائل) النجوم للبيروني والخيام، ومسائل التعافب الزمني وتاريخ التقويم (مامدبيلي، روزنفلد، روجانسكايا، بولغاكوف، أحمدوف، سيرغييفا، ماتفيفسكايا، وغيرهم).

أما تاريخ الآلات الفلكية فقد أولي اهتماماً جيداً (بولغاكوف، روزنفلد) وخاصة الإسطرلابات ونظرياتها الرياضية (أ.طاغي- زادة). وكرست سلسلة من البحوث لمسائل الميكانيك والفيزياء والكيمياء والطب وفلسفة الطبيعة ومسائل فلسفية بحتة عن العلم العربي. وفي 1962 قام المستشرق السوفيتي المشهور أ.م.بيلينتسكي وعالم فيزياء البلوريات والمختص في علم المعادن غ.غ. ليملين بإجراء بحث رائع “علم المعادن” عند البيروني وكتابه حول الأوزان النوعية، وبذلك فقد وضعا الأساس لسلسلة كاملة من البحوث في هذا الإتجاه.

ولقد درست مسائل السكون (ابن سينا، ابن قرة) ومسائل الميكانيك بشكل عام في المشرق القروسطي (أحادوف م. و ت.د.ستلروف وغيرهم ) وأنجزت م.م. روجانسكايا في عام 1976 أول دراسة شاملة في هذا المجال (روجانسكايا) [8]، حيث درست أحد الأعمال الأساسية وهو “كتاب ميزان الحكمة” للخازني وكرست روجانسكايا جل دراستها للمسألة الأساسية في علم الحركة في المشرق القروسطي- النموذج الحركي الهندسي لحركة الأجسام السماوية، مثل أسلوب بطليموس وطرق البطليموسيين الجدد.

وأجريت في الإتحاد السوفيتي أبحاث عن أعمال الرازي و”القانون في الطب” لابن سينا و”علم الصيدلة” للبيروني. واهتم العلماء بالمراسلات العلمية بين البيروني وابن سينا حول مؤلف أرسطو الذي نشره يو.ن.زفادوفسكي. ودرست المؤلفات الفلسفية للفارابي وابن سينا والخيام وابن رشد، وتصنيف العلوم عند الفارابي وابن سينا. كما ظهرت أعمال فيها تعميم في تاريخ الفلسفة في آسيا الوسطى. وكتبت السير العلمية لكل من البيروني (بولغاكوف، روزنفلد، روجانسكايا، سوكولوفسكايا) والخيام (روزنفيلد، يوشكيفتش) والفارابي (قبيسوف) وغيرهم.

وبذلت جهوداً ضخمة في الإتحاد السوفياتي لنشر أعمال كبار العلماء العرب، ففي 1954- 1960 أصدر معهد الاستشراق في طشقند “قانون الطب” لابن سينا في خمسة مجلدات أما في عام 1957- 1976 صدرت سبعة مجلدات “الأعمال المختارة” للبيروني: “تعاقب الزمن”، “الهند”، “جيوديزيا”، “علم الصيدلة”، “القانون المسعودي في جزئين” و”علم النجوم” وكان ذلك بناء على مبادرة من المؤرخ الكبير وعالم الآثار في آسيا الوسطى س.ب. تولستوف. وقام بترجمة “تعاقب الزمن” المستعرب السوفيتي الكبير م.أ. سالييه وهو نفسه الذي ترجم قصص “ألف ليلة وليلة”. أما مترجم “جيوديزيا” وأحد مترجمي “القانون المسعودي” فهو تلميذ كراتشكوفسكي المستعرب السوفيتي الشهير بولغاكوف الذي أصدر لأول مرة النص الكامل “للجيوديزيا” باللغة العربية. وفي موسكو نشر “علم المعادن” ورسالة في الوتر للبيروني. وصدرت في طشقند المراسلات العلمية بين البيروني وابن سينا وكذلك “المخطوطات الجبرية” للخوارزمي و”كتاب الأسرار” للرازي. أما في باكو فقد نشر المخطوط المثلثي للطوسي.

وقام معهد الفلسفة والقانون التابع لأكاديمية العلوم الكازاخية (ألما-آتا) بنشر خمسة مجلدات من مؤلفات الفارابي: المخطوطات الفلسفية والرياضية والإجتماعية وفي الأخلاق ومخطوطاته في المنطق وشروحاته حول “المجسطي” لبطليموس. وطبعت في موسكو “رسائل الخيام” ومخطوطات الكاشي الرياضية وعدد من مخطوطات ابن قرة وابن الهيثم والطوسي وأولغ بك وصدرت مؤلفات ابن قرة عام 1984 وكتاب ميزان الحكمة “للخازني” مع تعليقات مفصلة عام 1983 وصدرت مخطوطات للبيروني و”المناظر” لابن الهيثم وغيرهم.

أعطي في فترة العهد السوفييتي اهتمام واسع لإعداد المختصين الشباب في مجال الإستعراب في موسكو وفي مدن أخرى من الإتحاد السوفياتي معظمهم في موسكو وآسيا الوسطى والقوقاز. أما الآن فتعاني مدرسة الإستعراب العلمي في روسيا من صعوبات وعقبات كثيرة يأتي في مقدمتها شحة المخصصات المالية للبحث العلمي وعدم تشجيع الجهات العليا المسؤولة لهذه الأبحاث لأسباب مختلفة لا يمكننا التوقف عندها في هذا البحث.

ولا يمكنني أخيراً إلا أن اضيف أن من واجبنا كعرب ومسلمين أن نمد يد التعاون والدعم المادي والمعنوي لهؤلاء العلماء الروس الذين ربطوا حياتهم ومصيرهم وقضوا أجمل سنوات عمرهم مع المخطوطات العربية سواء بالقيام بترجمتها أم دراستها ونشرها وقد قالوا كلمة منصفة وعادلة بحق تراثنا وكل ذلك يستحق منا كل الاحترام والتقدير لهم. وكل ما قدمناه لا يمثل عرضاً كاملاً عن البحوث التي أنجزت في تاريخ الرياضيات العربية، في الإتحاد السوفياتي.

  • عن انتقال العلوم المكتوبة بالعربية وتأثيرها في النهضة الأوروبية

هذا الموضوع يحتاج إلى وقفة طويلة لأن حملة الترجمة الواسعة من العربية إلى اللاتينية والعبرية جزئياً بدءاً من القرن 12 م تعتبر ثاني أكبر حملة ترجمة في التاريخ بعد الترجمات الواسعة التي قام بها العلماء العرب والمسلمين من اليونانية والسريانية والسنسكريتية والفارسية إلى العربية. فالحضارة والنهضة العلمية تبدأ مع الترجمة ونقل التراث الحضاري السابق. ومن المترجمين المعروفين آدلار الباثي (المعروف بفيبوناتشي) وبيار ألفونس ويوحنا الإشبيلي  وجيرار الكريموني.

وقد ازدهرت الترجمة في الأندلس في قرطبة مثلاً وفي صقلية فترجمت أعمال الخوارزمي وابن الهيثم وأبي كامل وعشرات العلماء غيرهم إلى اللاتينية واعتمد عليها العلماء الأوروبيون في كتاباتهم. كما استخدمت المؤلفات العربية في التدريس الجامعي في أوروبا لمئات السنين. ومن جهة أخرى هناك عشرات المؤلفات اليونانية القيمة حفظت بالعربية فقط ثم ترجمت إلى اللاتينية. وهذا فضل عظيم للحضارة الإسلامية على أوروبا.

ولكن الأهم من ذلك أيضاً ترجمة مؤلفات كبار العلماء العرب مثل الخوارزمي وغيره إلى اللاتينية ما ترك أثراً  هائلاً في تطور العلم الغربي ، حيث أصبح الحساب الهندي أول إسهام عربي في تكوين الالعدة الرياضية في أوروبا . فقد عرف الأوروبيون الأرقام العشرية عن طريق العرب وسموها الأرقام العربية. وكذلك تعرف كبار العلماء من أمثال كبلر وكوبرنيكوس على أعمال ابن الهيثم وابن الشاطر وغيرهم من علماء الرياضيات والفلك. ويذكر بعض الباحثين أن مكتبات كوبرنيكوس ونيوتن وبيكون وغيرهم من أشهر علماء الغرب كانت تحتوي على كتب عربية.

وللأسف رافقت عمليات الترجمة ظواهر سيئة مثل سرقة البحوث ونسبها لعلماء أوروبيين مثل ريجيو مونتانوس الذي نسب لنفسه أبحاث في المثلثات وغيرها تعود إلى علماء عرب مثل أبي كامل والكرجي وغيرهم. والأمثلة على ذلك كثيرة. ومعظمها جرى تصحيحها وإعادة الحق لأصحابها.

 وقصة العالم العربي الكبير ابن النفيس معروفة في اكتشافه للدورة الدموية الصغرى والتي نسبها لنفسه الطبيب الانجليزي هارفي. وفقط في القرن العشرين تم اثبات سرقة هارفي لهذا الاكتشاف، حيث كان هارفي يتقن العربية واطلع على كتاب ابن النفيس.

وهناك مسميات دارجة في علم الرياضيات بشكل خاص تنسب لعلماء أوروبيين ولكنها اكتشفت من قبل علماء عرب ومسلمين قبلهم بقرون عديدة. ومن الأمثلة نذكر: مثلث باسكال الذي يستخدم في حساب معاملات مفكوك ثنائي حد نيوتن. فقد كان معروفاً منذ القرن 11 م لدى العلماء العرب في المشرق الإسلامي ومغربه (عند الكرجي والسموأل وابن منعم وغيرهم).   وتأثر فيبوناتشي في كتاباته عن المعادلات بأعمال الخوارزمي وأبي كامل والكرجي وابن الهيثم. علماً أنه نسب لنفسه كيفية استخراج جذر تكعيبي بطريقة تقريبية كانت معروفة عند الطوسي وكوشيار بن لبان(ق 9) وتلميذه النسوي (ق 11). ويقال ان فيبةناتشي صرح بنفسه أنه زار مصر وسورية وبيزنطية وصقلية  والبروفانس وإيطاليا

شاهد أيضاً

هدوء حذر بمدينة الحسكة إثر إقالة “حمو” رسمياً وإحالته لدمشق رضوخاً لمطلب قبيلة الجبور

سوريتنا-خاص: أصدرت وزارة الدفاع التابعة لنظام الأسد، قراراً مساء اليوم بشكل رسمي يقضي بتكليف قائد …

2 تعليقات

  1. كمال العنداري

    مقال قيم جدا ومفيد وينم عن دراسة معمقة لتأثير العرب والمسلمين في الحضارة الإنسانية.
    اشكر الكاتب الدكتور محمود الحمزة والذي اعرفه شخصيا من أيام الدراسة في موسكو واتمنى له دوام النجاح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *