عندما كُسِرت نظّارة زميلي الكردي

 



سوريتنا-خاص :

محمود الماضي

الجمعة 23 / 10 / 2020

منذ أن وُعينا على الدنيا، أرهبتنا لفظة “علوي”،أخافونا بها صغاراً، وحذّرونا من ذكرها شباباً، كنّا نعتقد في طفولتنا، أنّها شتيمة، أو لفظة كفريّة، يجرّم الشخص الذي يتلفّظ بها .

لكن كنّا نرى، أنّ من يوصفون بها تخافهم الناس، حتى المعلمين الذين قدموا من الساحل، يحظون في منطقتنا بالحفاوة، والتكريم، وأحياناً إلى درجة التّبجيل، والتّزلّف، أينما حلّوا، فهم أشبه بالسلطة، وربما بعض منهم لم يكن من تلك الطائفة، لكن عندما تفاجؤوا بهذه المكانة، والتقدير في الجزيرة، استغلّوا هذا الاسم، باعتبارهم قدموا من نفس الموطن، ويتكلّمون اللّهجة نفسها، وأهل الجزيرة كانوا وقتها، يظنّون أنّ كلّ من يأتي من الساحل، فهو علويّ، وابن عمّ حافظ الأسد .

كبرنا، وكبر الخوف في نفوسنا، بعد أن سمعنا عن المخابرات، وتوحّشها من خلال الأحاديث الخاصّة، التي كنّا نسترقها من الكبار، عن بعض أولئك الشباب العرب، الذين “شالتهم” المخابرات، ولم يعودوا، إضافة إلى حالات التّعذيب الوحشيّة، التي تروى في أقبية المخابرات .
لم يستطع أحد التوسّط لهم، أو حتى السؤال عنهم، مهما علا شأنه، لاندري عن قصّتهم إلّا قول : عميل، أو منتسب لليمين المشبوه في العراق .
فمجرّد ذكر اسم العراق هي جريمة، تكفي “لتذهب إلى بيت خالتك”، كما هو المصطلح المتداول حينها .

وأذكر أنّنا كنّا، نختلس في هدأة اللّيل، بعض المشاهد من تلفزيون العراق، خشية تقارير “مندوب” المخابرات، الذي زرعوه في كلّ بلدة، وحي، وقرية، علما أنّه لايوجد بثّ تلفزيوني في الجزيرة حينها، سوى تلفزيوني سورية والعراق .
أمّا تهمة الأخوان، فهذه قصة أخرى، عقوبتها الإعدام، وقد تطال هذه التّهمة كلّ شخص ملتحٍ ، ظهر له نشاط دعوي، أو اجتماعي وقتها، رغم قلّة منتسبي الأخوان في الجزيرة .
لكن انتست قضيّة الأخوان، واستمرّت تهمة العمالة لليمين العراقي المشبوه، إلى نهاية التسعينيّات من القرن الماضي .

ومع كلّ هذا الخوف، وتحاشي ذكر العراق، كادت غلطة أخي أن تودي بفرصة الوظيفة، بعد التخرّج من الجامعة، عندما سألوا عنّي، ضمن مايسمّى الدراسة الأمنيّة : هل له أقارب في العراق ؟ فأجابهم أخي بعفويّة : أي خوالنا في العراق، فردّ عليه أحد العناصر، وهو من دير الزور : الله لايعطيك العافية، أنت روح انقلع من هون …
لكن الدوريّة بعد أن حصلت على ماتسمّى “الحلوانيّة”، غادرت بدراسة إيجابيّة .

من هنا بدأت مراجعة مديريّة التربية في الحسكة، لم أشعر بعناء الطّريق، والبعد، وصعوبة وسائط النقل، لقد بدّدها كلّها التفاؤل، وأضفى عليها شيء من السعادة، قرب تحقيق الحلم بالوظيفة، وأيّما وظيفة، الفوز بلقب “مدرّس”

عند الوصول كان لابدّ من الدخول على “أبو رامي” مدير التربية المساعد لشؤون الثانوي ،
لكن وجدنا الباب مغلقاً، وشاهدنا رجلاً ثلاثينيّاً، واقفاً على الباب، حاول زميلي الكردي، أن يفتح الباب ليدخل، فمنعه ذلك الرجل قائلاً : ارجع لورا ! ردّ عليه زميلي : شو فيه أخي ؟ بدّي أدخل لعند “أبو رامي”، قال له : أبو رامي عنده اجتماع، ارجع لورا أبتفهم ولااا ؟
قال له : “وليش عم تحكي معي بهذه اللّهجة ؟ مين أنت” ؟
عندها انهال الرجل على زميلي الكردي، لكماً فأوقعه أرضاً، حاول النّهوض، فلكمه مرة أخرى، ورفسة بقوة على قفص صدره، فسقط منهاراً، عندها حصل تدخّل من الحاضرين، وارتفعت الأصوات، فأخذ الرجل يصيح، بأعلى صوته : ارجعوا لورا ولااا، ارجعوا لورا ولااا…..
خرج أبو رامي، وضيفه، وسألا معا : شو في ؟ شو في ؟ ردّ الرجل : هذا الحيوان، مكبّر راسه، ودفش الباب بدّه يدخل، مع أنّي قلتلّه : عندن اجتماع، ومصرّ إلّا يدخل غصباً عنّا .
عندها أسمع بعض المراجعين، يتناجون فيما بينهم بصوت خافت، هذا أبو صلاح تبع المخابرات العسكريّة، معناها هذا عنصر عنده !
رجع معاون مدير التربية أبو رامي، والمساعد أبو صلاح، وتابعا اجتماعهما الخاصّ، دون اكتراث بالأمر، قبل إغلاق الباب من جديد، وكأنّ شيئاً لم يكن !

عندها لملمنا بقايا نظّارة زميلي الكردي من الأرض، تلك التي تحطّمت في وجهه، مع أول لكمة، ثمّ أخذناه معنا لنغسل أنفه وجيب قميصه من الدماء .

لم يكن يعلم رجل المخابرات المتوحّش هذا، أنّ زميلنا كردي، وهذا الاعتداء كان سيقع على أيّ منّا، لو قام بنفس محاولة هذا المدرّس، صاحب الحظّ العاثر ، ونحن لم يخطر ببالنا، لحظتها عرق زميلنا، أو طائفته، كنّا نشعر أنّنا كلّنا أعتدي علينا، وأُهنّا جميعاً في مؤسستنا، وكنّا نشعر بأنّ الشعب بأكمله، قد أهينت كرامته، وأعتدي عليه، لكنّنا لم نقوَ على نصرة زميلنا الكردي يومها .

هذا هو استبداد نظام الأسد، وتعامله مع الشعب السوري، على مدى خمسين سنة، لم يفرّق يوماً بين عرق، وآخر، أوطائفة، وأخرى إلّا حسب الولاء، والتأييد، لقد أطاح حافظ الأسد، في بداية اغتصابه للسلطة، برفاقه البعثيين، الذين أرادوا مشاركته في الحكم دون تمييز، ونكّل بهم .
فالظلم، والقهر، والقمع لم يكن وقفاً على مكوّن دون آخر، وإنّما وقع على جميع الشعب السوري، والتّنكيل طال كلّ من تجرّأ على قول كلمة الحقّ، وماحدث في سورية منذ عشر سنوات، من قتل، ودمار، وتهجير، وتجويع شمل الشعب السوري كافّة، وإن كان هناك من مظلوميّة قاسية، تفرّدت بها فئة، فهي تلك التي قتلت، ودمّرت مدنها، وحواضرها، وهجّرت .

شاهد أيضاً

عن الاصطفاف الأميركي- الأوروبي مع إسرائيل

خطار أبودياب شكلت مفاجأة تخطي جدار غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منعطفا في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *